ما زالتا عالقتين في ذاكرتي الندية حادثتان حينما كنت أدرس في المرحلة الابتدائية، الأولى كانت في مرحلة الثالث أي بعمر ثمان سنين. لا زلت أتذكر جليسي على مصطبة الدرس حينها كان صديق طفولتي السيد حيدر السيد رجب حينما طلب مني معلم الرياضيات الذي أترفع عن ذكر اسمه أن أجيب عن سؤال لم أستطع الإجابة عنه من شدة الخوف والرعب الذي كان يزرعه في قلوبنا، فما كان منه إلا أن طلب من اثنين من زملائي أن يرفعوني فلقة وأخذ يضرب بكل ما أوتي من قوة على أسفل قدمي وكأنه يأخذ ثأرا من طفل بعمر الثامنة حتى أحمرّتا وتورّمتا من الضرب!
الحادثة الثانية كانت في مرحلة الخامس الابتدائي حينما تأخرت عن الدرس الأول في شتاء ممطر وقارص، ففوجئت مع مجموعة من التلاميذ المتأخّرين كحالي بالملعم الذي أترفّع عن ذكر اسمه، كان أحدنا أيضا صديقي وجاري السيد حيدر السيد رجب وتلاميذ آخرين قادمين من مناطق نائية مستوياتهم المعاشية لا تسمح لهم إلا بالمشي ذهابا وإيابا بشكل يومي وعلى مدار العام الدراسي والتأخر شيء متوقع ومفهوم.
فوجئنا بهذا \”المعلم\” يمسك بالعصا القاسية ويطلب منّا أن نصطف أمام السبورة ونقلب أيدينا الناعمة البريئة على قفاها وصار يضربنا كالمجنون بهستيريا عجيبة ما زالت عالقة في أذهاننا كلّما ذكر أسم \”المعلّم\” لنعود إلى أماكننا في صفوف نوافذها مشرعة للبرد!
في المقابل كنّا نتوق إلى درس اللغة العربية ونواظب على حضوره باستمرار. هذا الدرس كان يعطينا إياه أستاذنا الفاضل المعلم الحقيقي حسين بن الشيخ محمد الطوفان (رحمه) الذي كان يرفع من معنوياتنا أمام آبائنا كلما سألوه عن مستوانا الدراسي وأخلاقنا في المدرسة ولم يعجز يوما عن التعامل معنا نحن الصغار بحنية أبوية حقيقية فكان لنا في المدرسة معلما وأبا بكل ما للكلمة من معنى.
بعد هذه السنين وبعد تبدّل الأحوال وحينما رجعت إلى العراق قابلت كلا المعلمين فانتابني شعور بالانتقام من الأول فترفعت عنه ولم أبدي له امتعاضي ولو بكلمة، بينما احتضنت معلّم العربية بشوق ولهفة وجلسنا معا نتجاذب أطراف الحديث.
كم أنت رائع أيها المعلم حينما تكون من طينة حسين الشيخ محمد؟ وكم أنت بائس وتعيس حينما تكون من أمثال \”معلم الفلقة\” و\”معلم تكسير الأصابع\”. فيا أيها المعلم أمامك خياران؛ إما أن تكون معلما بامتياز أو جلّادا بجدارة والأمر إليك فانظر ما أنت فاعل، فعلى كلا الطريقين ذكر نجاح أو ذم فشل.
قم للمعلم وفّه التبجيلا … كاد المعلّم أن يكون رسولا
* كاتب وناشط عراقي مستقل