مكافحة المحتوى الهابط: حماية لأخلاقيات المجتمع أم تضييق للحريات؟

بعد أربع سنوات من نشره فيديو على صفحته الشخصية بموقع فيسبوك، واجه الشاب حمزة عباس ملاحقات قضائية كادت ان تنتهي به للحبس بسبب ما كان يراه مجرد تعبير عن رأي، في ظل اجراءات تنفيذية – قضائية تشكل تهديدا لمئات من مشاهير صفحات التواصل، ويمكن أن تصبح أداة لملاحقة مدونين وصحفيين وشعراء بتهمة “المحتوى الهابط”.

عباس (24سنة) من مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) يتابع حسابه على (تيك توك) نحو خمسة ملايين شخص، يقدم محتوى اجتماعياً منوعاً يعبر فيه أحياناً عن آرائه التي قد لاتتوافق دائما مع الرؤية العامة في المجتمعات التي يخاطبها.

نشر الشاب في شهر أيار/مايو2019 مقطع فديو عبر فيه عن عدم تقبله للهجتين “الموصلية والبغدادية” وذكر بأنهما “لاتليقان بالرجال”، وتلقى بعدها بدقائق قليلة إتصالاً هاتفياً من والده يطلب منه حدف الفديو على الفور، ليتجنب عواقبه، فقام بذلك على الفور، حسبما يقول.

غير أن أحد متابعيه كان قد تمكن من حفظ الفديو خلال ذلك الوقت القصير، وأعاد نشره بعدها بأيام في حسابٍ على فيسبوك خاص بأهالي مدينة الموصل، وطالب الجهات الأمنية بالتدخل واعتقال عباس ومساءلته عن إسائته.

“نشرت على حسابي الخاص في فيسبوك كلمة اعتذار، وذكرت بأنني أخطأت، وأنني لم أكن أقصد الإساءة إلى أي أحد”، يقول عباس انه اعتقد أن المشكلة إنتهت عند ذلك الحد.

لكن بعد أربع سنوات أعاد شخص نشر مقطع الفديو، وتحديداً في أواخر نيسان/أبريل 2023، لتقوم قوة تابعة للأمن الوطني باعتقاله مع والده.

يتابع:”حاولت أن أبين لهم بأن المقطع قديم وأنني اعتذرت عنه، إلا أن ضابط التحقيق أخبرني بأن علي تحمل أخطائي”.

استمر التحقيق ليومين مع عباس، قبل إطلاق سراحه مقابل تعهدات وقع عليها، إلا أنهما كانتا كفيلتين بإحداث أثر عميق في نفسه، ولاسيما أنه يعتقد بأنهم تعاملوا معه كمجرم، وليس كشخص يقدم محتوى اجتماعياً ترفيهياً، مما جعله يتعامل بحذر شديد مع كل ما يقدمه ويتجنب أي قضية قد تثير الرأي العام أو تعد محتوى هابطاً في نظر الشرطة والقضاء.

خلال أقل من عامين، تم ملاحقة واعتقال المئات من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، بتهم نشر محتوى مسيء للمجتمع، عدد كبير منهم نساء حققن شهرة واسعة من خلال بثهن لمقاطع فديوية تضمنت تعليقات وصفت بالجريئة والخارجة عن المألوف الاجتماعي، لكن كان بين المعتقلين من يقدمون محتوى ساخر وآخر اجتماعي ناقد، وفي الخلفية اعتقل شعراء وصحفيون.

وكان مجلس القضاء الأعلى العراقي قد أطلق في الثامن من شباط فبراير2023 حملة عرفت بـ( مكافحة المحتوى الهابط) في وسائل التواصل الاجتماعي، لتؤكد تعاونها مع وزارة الداخلية التي كانت قد شكلت لجنة خاصة لذات الغرض، وخصصت منصة الكترونية تحمل أسم (بلغ) لإستقبال شكاوى المواطنين فيما يرونه مواداً هابطة في وسائل التواصل الإجتماعي.

بعد أقل من شهرين على انطلاق الحملة “الأمنية القضائية” لملاحقة صانعي المحتوى بمختلف مضامينهم، صدرت أحكامٌ قضائية ضد العشرات وزج بهم في السجون، ليضطر البعض إلى وقف أنشطته وغلق منصاته، أو حتى إلى النزوح إلى أقليم كردستان أو أبعد من ذلك بالهجرة إلى خارج العراق كما حدث مع العديد من صانعات المحتوى.

هذا التحقيق، يسلط الضوء على تداعيات حملة مكافحة المحتوى الهابط على الرأي العام، والمخاوف من شمولها مدونين وأصحاب رأي او استغلالها كأداة لتضييق الحريات بما فيه حرية التعبير في وقت تستمر مشكلة الفساد وتُسجل ملفات كبرى يفلت أصحابها من المحاسبة، بينما تجبر صاحبات محتوى على الهجرة وتقرر آخريات الاستمرار رغم خطر الاعتقال في ظل تحول محتواهن الى مصدر أساسي لمعيشتهن.

ملاحقات قضائية

بعد أيام قليلة من إطلاقها منصة بلغ، أعلنت وزارة الداخلية عبر المتحدث باسمها خالد المحنا، تلقيها 96 ألف بلاغاً من مواطنين عن المحتوى الهابط في وسائل التواصل الاجتماعي، دون الكشف عن سقف زمني محدد للحملة أو حصيلة لما نجم عنها من اعتقالات، وفي ظل العجز عن ايجاد إجابة دقيقة بشأن كيفية تحديد “المحتوى الهابط”.

اكتفى المحنا بالقول أن هدفها هو:”تصحيح المسار وتشجيع المحتوى الإيجابي، بهدف اعطاء رسائل واضحة عن ماهية المجتمع العراقي والوجه الحقيقي للشاب والشابة العراقية”، ونفى أن تكون الحملة قد حدت من حرية الرأي في البلاد إذ قال:”جميع الحريات مكفولة بالدستور العراقي”.

وتعتمد الجهات القضائية في الغالب على نص المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في توجيه التهم ضد المعتقلين المحالين إليها ضمن حملة مكافحة المحتوى الهابط.

وتنص هذه المادة على:”يُعاقَب بالحبس مدّة لا تزيد عن سنتين وبغرامة لا تقل على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الأداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعتبر ظرفًا مشددًا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق.

القاضي في محكمة تحقيق الكرخ الثالثة المختص بقضايا النشر والإعلام عامر حسن، أكد في تصريح صحافي، بأن مصطلح (المحتوى الهابط) أصله القانوني هو “الجرائم المخلة بالأخلاق العامة أو الفعل الفاضح الذي يخل بالحياء العام”.

وعبر عن اعتقاده بأن هذه الجرائم قد “تحولت إلى ظاهرة وبدأت تؤثر على المجتمع والأسرة والأجيال الناشئة وسلوكياتها” وأن تحرك الدولة بمختلف مؤسساتها هو بهدف الحد منها.

وقال بأن مجلس القضاء الأعلى، كان قد بادر في 2021 إلى تشكيل لجنة مشتركة من عدة جهات برئاسة مجلس القضاء وعضوية ممثلين عن هيئة الإعلام والاتصالات، ونقابة الصحفيين، ونقابة الفنانين، وجهاز الأمن الوطني، ومجموعة أخرى من أجهزة الدولة “تكون معنية برصد حالات التجاوز الذي ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي وملاحقة مرتكبيها وفق أحكام القانون”.

وذكر بأن تلك اللجنة لم تمارس عملها بسبب انتشار جائحة كورونا، وفي 2022 قام مجلس القضاء الأعلى بإلغائها:”بعد تشكيل محاكم للنشر والإعلام”، وطلب من وزارة الداخلية أن تشكل لجنة منها حصراً تتولى رصد الحالات المخالفة للقانون التي “تتضمن نشر محتوى يسيء إلى الأخلاق العامة أو يتضمن فعلاً فاضحاً” وعرضها على محكمة تحقيق الكرخ المختصة بقضايا النشر والإعلام التي يتولى هو شخصياً مهامها.

محام ينشط في محاكم استئناف منطقة الرصافة، طلب عدم الإشارة إلى اسمه لكي لايتعرض إلى عقوبات من نقابة المحامين التي تمنع المحامين من التصريح لوسائل الإعلام إلا بتخويل منها.

يقول بأن مجرد توصيف المتهم بأنه صانع محتوى هابط:”أمر منافٍ للدستور العراقي، وذلك لأن المتهمين الذين هم أصلا أبرياء حتى تثبت إدانتهم، سوف يتعرضون الى وصمة مجتمعية”.

ويضيف:”المحتوى الهابط شعبياً، يعني أمراً يتعلق بالجنس، سواءً بالصورة أو بالصورة والصوت أو فقط بالمفردات، وبما أن المجتمع العراقي فيه نسبة تدين كبيرة، فأن الجهات التي اطلقت الحملة تركز على اعتقالاتها التي طالت فتيات ليل وتقدمهن على أنهم صناع محتوى، ولا تركز في المقابل على عشرات الاعتقالات التي تطال صناع المحتوى السياسي أو الاجتماعي المتضمن نقدا لمنظومة الفساد في مؤسسات الدولة”.

وينتقد ظهور ضباط في وسائل الإعلام، يصفون صناع المحتوى “الذي يعتقدون بأنه هابط” على أنهم مجرمون “وهذا انتهاك واضح وصريح لمبادئ حقوق الإنسان”.

ويضيف:”إن تناولنا الموضوع من الناحية القانونية، فان وزارة الداخلية ليس من شأنها أن تتدخل في هذه المسائل، حتى وإن كان هنالك تعاون بينها وبين مجلس القضاء الأعلى”.

معدة التحقيق حاولت بتواصلها المتكرر مع وزارة الداخلية الحصول على إحصائية بأعداد من تم اعتقالهم بناء على التبليغات، غير أنها لم تحصل على إجابة، لكنها حصلت على مجموعة من الأحكام القضائية التي صدرت ضد صانعي المحتوى.

منها حكم بالحبس لسنتين أصدرته محكمة جنايات الكرخ برئاسة القاضي عبد الستار بيرقدار، صدر في 12شباط/فبراير 2023 في الدعوى المرقمة 607، ضد نور عصام عبد الرحمن محمد رشيد، الملقبة بـ(عسل حسام) والتي تقدم نفسها كبلوغر وعارضة أزياء، بتهمة نشر محتوى مخل بالآداب العامة.

والمحكمة ذاتها أصدرت حكماً أخر في8/2/2024 رقم الدعوى 560، ضد محمد عبد الكريم حسين الباوي، الملقب بـ(حسن صجم) بالحبس لمدة سنتين، بتهمة نشر محتوى مسيء.

وقبلها كانت محكمة جنح الكرخ فد أصدرت في 25\1\2024 حكمين في الدعوتين المرقمتين المرقمة508 و 509 بالحبس البسيط لمدة أربعة أشهر بحق كل من التيكتوكر عمر أحمد عباس حسين الملقب بـ(شيفان الزبيدي)، وفاضل أركان مشهول سهيل، بتهمة المحتوى المسيء.

وأصدرت محكمة الكرخ في 8 شباط/فبراير2024، حكماً بالحبس لسنة واحدة وفقاً للمادة 403 من قانون العقوبات في الدعوى المرقمة 547 بحق (علي محمد جرمط سيد) الملقب بـ (سيد علي) بتهمة المحتوى المسيء، وهو منشئ محتوى في منصة تيك توك، يعيش بمحافظة ديالى وكان قد ظهر في نهر ديالى ببعقوبة وهو يحاول نثر الطين على نفسه.

وأصدرت محكمة جنح الكرخ بتاريخ 11\9\2024 حكماً على فارس عبد السادة علي، الملقب بـ (فارس صكاركم) بالحبس البسيط لمدة سنة واحدة وفقا للمادة 372/5 من قانون العقوبات العراقي، المتعلقة بإهانة رمز أو شخص موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية معينة.

وأصدرت محكمة الكرخ كذلك في 8\10\2024 حكماً بالحبس لمدة أربعة أشهر وفقاً للمادة 403 من قانون العقوبات بحق رغد محمد غالي.

وامتدت الملاحقات القضائية لتشمل عراقيين مقيمين في خارج البلاد، إذ أعلنت وزارة الداخلية في الثامن منتشرين الأول/ أكتوبر2024 صدور حكم غيابي بالحبس لسنة واحدة ضد مصطفى عبد الله مصطفى الملقب بـ(مصطفى الحجي) مع إصدار أمر قبض بحقه، مع أنه يعيش خارج البلاد منذ سنة 2014. ويعرف الحجي بفيديوهاته وتعليقاته الساخرة التي يصفها البعض بالمسيئة للمجتمع.

تكمي للأفواه

منظمة إنهاء الإفلات من العقاب في العراق، وصفت في بيان لها يوم 9 شباط/فبراير 2023 حملة مكافحة المحتوى الهابط بأنها “تكميم للأفواه” وحملة ممنهجة تقودها أحزاب السلطة لتقييد حرية التعبير.

ودعا البيان إلى تحديد ماهو “محتوى هابط” وفقاً للقانون وليس “وفقاً لأهواء القضاة” وذلك لكون مفهوم المحتوى الهابط من المفاهيم المطاطية غير الموصوفة بأركانها في القانون، وبذلك يمكن استخدامه لتجريم أي فعل لاينسجم ومصلحة القابضين على السلطة، وفقاً للبيان.

وحمل البيان تساؤلا، عن السبب الذي يلاحق فيه ما يوصف بالمحتوى الهابط الذي يقدمه “بعض البسطاء”، في حين أن هنالك ما يصدر عن سياسيين ويؤدي إلى مشاكل كبيرة في البلاد دون أن تتم مساءلتهم.

فيما انتقد الناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان حيدر الموسوي، الجهات القضائية لعدم تحديد تعريف للمحتوى الهابط، وترك تحديد ماهيتها إلى “لجنة في وزارة الداخلية”.

ويقول:”الاذواق مختلفة، فالمحتوى الذي تقرره اللجنة هابطاً، قد يكون عند الآخرين ممتعاً والعكس”، ويرى الموسوي أنها مجرد إجراءات لـ:”تكميم الأفواه والسيطرة على الرأي العام”.

دلير احمد، وهو ناشط مدني، يرى أن الحملة جاءت مع استمرار الفشل السياسي والحكومي، وفي ظل انتشار فساد القوى الحاكمة وانكشاف ملفات سرقات كبرى بمئات ملايين الدولارات، ودون ان تتمكن السلطات من محاسبة أصحابها.

ويقول :”أرادوا ان يبعدوا أنظار المجتمع عن ملفات الفساد الكارثية، والقول للناس بأنهم ضد الفساد بإشغالهم بحالات موجودة في كل المجتمعات، فهناك دائما محتوى هابط سواء ظهر على صفحات التواصل أم ظل مستوراً، خاصة ان هناك الملايين ممن يجذبهم متابعة ما هو غير مألوف من قول وفعل”.

عضو منظمة “بسمة حواء” الناشط المدني نور الحسن الموسوي، يتهم بدوره بعض السياسيين الذي  يظهرون في لقاءات تلفزيونية بصناعة محتوى هابط:”يطلقون الفاظاً مسيئة ومخدشة للحياء ومفضية للتناحر والانقسام في المجتمع، دون أن تصدر بحقهم مذكرات قبض؟”.

ويضيف:”بعض الفانشيستات اللواتي القي القبض عليهن، مدعومات في الأصل مادياً من قبل سياسيين، وغالبيتهن صغيرات في العمر وينتمين لأسر مفككة من الطبقة الفقيرة، يزج بهن للعمل صانعات محتوى في السوشل ميديا بعد اغرائهن بالمال ومن ثم يتم القبض عليهن”.

ويستدرك:”مكافحة المحتوى الهابط على أية حال، بداية لمصادرة حرياتنا”.

تمدد على السلطة التشريعية

المخاوف من الحملة لا تكمن في تقييد الحريات فقط واستغلال الحملة للتهديد بامكانية ملاحقة مدونين واصحاب رأي، بل ايضا في تمدد السلطات التنفيذية على باقي السلطات.

عضو مجلس النواب العراقي ماجد شنكالي، ذكر بأن هنالك تمدداً واضحاً للسلطتين التنفيذية والقضائية على السلطة التشريعية لأسباب أهمها:”ضعف من يمثلون السلطة التشريعية بسماحهم لهذا التمدد الذي وصل إلى أعلى مراحله من خلال ما يسمى مسودة لائحة تنظيم المحتوى الرقمي التي سبقتها حملة بلغ، في وقت ان النظام في العراق برلماني!”.

وأكد عدم وجود قانون خاص بالمحتوى الهابط، وتساءل:”على أي أساس إذن يتم تجريم فئة صناع المحتوى ؟”، ويضيف أن:”وضع لجنة من قبل وزارة الداخلية تحدد معايير المحتوى الهابط، وإصدار مذكرات قبض وفقاً لها، يعد هذا تجاوز على السلطة التشريعية، وانتج هذا التجاوز خروقات وازدواجية وتمييز بعقاب اشخاص دون غيرهم”.

وكانت عضو مجلس النواب فاطمة الموسوي، قدمت في 8\3\2023) طلباً إلى مجلس القضاء الأعلى من أجل “تحديد معايير للمحتوى الهابط” ليتجنبه المواطنون، وكذلك لتجنب الإساءة أو التعسف في الإخبار والمحاسبة”.

ضباط وشبكات إبتزاز

بينما كانت الأجهزة الأمنية والقضائية تلاحق المدونين وصناع المحتوى، كانت هناك جماعات نافذة في الدولة قد نشطت في ابتزازهم، بينما تحركت أخرى مجهولة في استهداف صانعات محتوى ونجحت في قتل عدد منهم، وأبرزهم (أم فهد) غفران السوداني (30 سنة).

في وقت متأخر من مساء 27 نيسان/أبريل2024 أقدم مسلحٌ يقود دراجة نارية على إطلاق الرصاص على أم فهد، وأرداها قتيلة أمام منزلها في منطقة زيونة بالعاصمة بغداد، ولاذ القاتل الذي رصدت كل ما قام به كاميرا مراقبة منزلية، بالفرار دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من القبض عليه.

معدة التحقيق تواصلت مع قريب للمجني عليها، طلب عدم الإشارة إلى أسمه، قال بأن أم فهد كانت قد اعتقلت في مطلع 2023 إثر:”خلافها مع صديقة لها من الوسط الفني على علاقة بضابط برتبة كبيرة في وزارة الداخلية العراقية، ترصد لها وكان وراء إحالتها إلى المحكمة بتهمة  المحتوى الهابط وتم حبسها لمدة ثلاث أشهر وعشرة أيام”.

أم فهد، أكدت ذلك في آخر ظهور لها في برنامج بثته قناة الرشيد الفضائية قالت فيه بأنها ظلمت، وأن ضابطاً (دون أن تذكر أسمه) قام بتهديدها ومساومتها:”لغاية اليوم يتم تهديدي”، ثم ناشدت المسؤولين في دولة الإمارات لمنحها الإقامة الذهبية لكي تنتقل إلى هناك مع عائلتها.

غير أنها عادت وذكرت أسم الضابط قبل مقتلها بأيام قليلة وذلك عبر مقطع فديو هددت  فيه خصمة لها :”امتلك مقطع فيديو لك وأنتي جالسه برفقة سعد معن، وان بقيتي على تهديدك لي وتصرفاتك سوف أقوم بنشرة “.

وسعد معن هذا الذي ذكرته أم فهد، هو لواء في وزارة الداخلية شغل فيها مناصب عديدة آخرها الناطق الرسمي بإسمها، ويعد من أوائل الضباط الذين شجعوا على اعتقال صناع ما يصفونه بـ”المحتوى الهابط”.

وكان أسمه قد ظهر هو وضباط آخرين برتب كبيرة من وزارتي الداخلية والدفاع، بين سنتي 2023 و 2024 في ملف عرف بـ(شبكة الابتزاز بالأفلام الجنسية) متهمين بإنشاء صفحات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي لإبتزاز ضباط آخرين وشخصيات معروفة بالأفلام الجنسية بهدف الحصول على الأموال.

وأكدت مصادر صحافية أن 17 ضابطاً ومنتسباً أدلوا باعترافات للجهات القضائية أفادت بقيام (اللواء سعد معن، والفريق الركن سعد العلاق) بإدارة وتمويل ست صفحات وهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي هي(العميد الكاظمي، يوميات ضابط دمج، شكاوى وهموم الشرطة، شبح الداخلية، فساد القوات الأمنية، شبح الدفاع).

إلى جانب صفحات وهمية أخرى، هدفها “تسقيط القيادات والضباط وابتزازهم واستغلال قانون المحتوى الهابط) ضد إعلاميين ومدونين رفضوا التعاون معهم” بحسب تلك الافادات.

ورسميا، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانا في 20 آذار/مارس2024 جاء فيه:”توصلت التحقيقات إلى تحديد عناصر شبكة داخل المؤسسة الأمنية تعمل على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي (صفحات بأسماء مستعارة) لابتزاز المؤسسة الأمنية والإساءة إلى رموزها، فضلاً عن ابتزاز الضباط والمنتسبين ومساومتهم”.

وأضاف “قررت هذه اللجنة إحالة الضباط المتورطين بهذا الفعل غير القانوني إلى الإمرة، واستمرار الإجراءات القانونية اللازمة وإكمال التحقيقات بحقهم” وكان سعد معن من بينهم.

قبل ان يفرج وبشكل مفاجئ عن “معن” في 30 تشرين الأول 2024، والاعلان عن تبرأته قضائياً واغلاق الدعوى ضده “بسبب عدم كفاية الأدلة”.

واللواء سعد معن الذي شغل موقع مدير العلاقات العامة في وزارة الداخلية، كان قد أصدر كتاباً في 2021 عن الابتزاز الالكتروني والوقاية منه، حمل عنوان “كيف تحمي نفسك من الابتزاز الالكتروني”.

شقيق أم فهد، أسمه كرار السوداني، قال لمعدة التحقيق أن القوات الأمنية أعتقلته بعد مقتل شقيقته، وتم التحقيق معه في مركز شرطة المثنى في بغداد ومن ثم وعلى مدى خمسة أيام في مكافحة الإرهاب. يقول:”اتهموني بانني من قتلتها لكنهم لاحقا اطلقوا سراحي”.

وبعد ساعات من مقتلها، وفي مخالفة قانونية فاضحة، سربت على مواقع التواصل إجتماعي، صور تظهر أجزاءً من جسمها وأوشامهاً، ووفقاً لكرار فأن عناصر من الأدلة الجنائية التابعة لوزارة الداخلية هي التي سربت الصور وقال عن ذلك:”إالجهة التي يفترض بها سترنا، فضحت أختي”.

ملاحقة الفنانين

رسمية صاحب مهدي يوسف، أسم شهرتها (وردة العراقية) أصدرت محكمة جنح الكرخ حكما ضدها في 25/5/2023 بالحبس البسيط لثلاثة أشهر وعشرة أيام وفقاً لأحكام المادة 403 من قانون العقوبات العراقي.

وعلى الرغم من عدم إشارة قرار الحكم إلى الواقعة التي أصدرت بشأنها حكمها، إلا أن محامياً، ذكر بأن الحكم استند إلى مقطع فديو كان معداً لأغنية، ظهرت فيه وردة العراقية وهي في بركة سباحة مع أحد الشبان الذي يقوم باحتضانها وتقبيلها.

معدة التحقيق تواصلت مع وردة العراقية عبر الهاتف، واتضح أنها أمٌ لستة أطفال وتسكن محافظة أربيل بأقليم كردستان التي انتقلت اليها من بغداد بعد خروجها من السجن في صيف 2023.

وذكرت وردة بأن عناصر من الأمن الوطني اعتقلوها في نيسان/أبريل2023، وأنها توسلت بهم أن يتركوها وشأنها مقابل أن تغلق جميع حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن”المحكمة أصرت على حبسي”.

ولم يقتصر الأمر على مجرد حكم بالحبس، بل تعدى ذلك إلى قيام طليقها خلال فترة وجودها بالحبس برفع دعوى اسقاط حضانتها لأطفالها الستة:”زوجة أبيهم، عاملتهم بسوء وعنف خلال فترة حبسي، وآثار ذلك مازالت ماثلة فيهم لغاية الآن”.

وتشير إلى أن طليقها تخلى عن دعواه مقابل ثلاثة ملايين دينار وهاتف جوال نوع آي فون:”كما أنني أغلقت حسابي الشخصي على تيك توك، كان عدد متابعيه مليونا شخص”.

قالت محتجة:”هم لم يستمعوا إلي، مقطع الفديو قديم، وتم تصويره لأغنية، فانا ممثلة، هذا هو عملي وتم حبسي بسببه”. وتضيف:”أحد الضباط رأى بأن الفديو يخدش الحياء ويهدم الأسرة العراقية”، ثم تستدرك:”لكنني لم أر الإصلاح في السجن، إذ كنت شاهدة على بيع المخدرات وتداولها هناك، إضافة إلى الفساد الإداري والأخلاقي”.

بعد فترة من خروجها من الحبس، دخل أشخاص منزلها واعتدوا عليها بالضرب وطعنوها بسكين:”لا أعرف لغاية الان من هم وماذا أرادوا، الجيران هم الذين انقذوني واسعفوني”.

بعد ذلك، قررت مغادرة بغداد والاستقرار في أربيل، وأنشات حساباً جديداً في تيك توك تقدم فيه مقاطع تمثيلية وإعلانات:”لتأمين المال لإيجار المنزل ومتطلبات الحياة لي ولأطفالي”.

لكن انتقالها الى اقليم كردستان لم يجنبها الملاحقات، فتم اعتقالها مرة أخرى في 31/10/2024 في اربيل بتهمة المحتوى الهابط، وتم نقلها إلى العاصمة بغداد تمهيداً لمحاكمتها هناك، وربما تودع السجن لمدة أطول من المرة السابقة.

تيسير العراقية (40 سنة)،  فنانة أخرى تسكن بغداد، اعتقلت في 12/5/2023 ومكثت في التوقيف لأسبوعين للتحقيق معها بشأن تهمة المحتوى الهابط التي وجهت اليها، تقول :”ليس لدي ظهر سياسي أستند عليه، لهذا تم اعتقالي، مع أنني فنانة، والفنان يغني ويرقص ويُمثل”.

وبدا عليها الغضب وهي تشير إلى وجود “فنانات يصنعن محتوى مليئاً بالكلمات البذيئة والتوصيفات غير الأخلاقية التي أضفنها إلى قاموس اللهجة العراقية”، وتتساءل:” لماذا لايشملهن العقاب، لماذا يتم التمييز بين هذا وذاك؟”.

وتتساءل مجدداً:”إذا لم يعجب الدولة العراقية ما نقدمه، لماذا لا توفر لنا فرص عمل، لماذا لا تؤمن معيشتنا، ولا تتكفل بعلاجنا”، مشيرة بذلك إلى أن ظهورها في وسائل التواصل الاجتماعي هو بهدف الحصول على مورد مالي لا غير.

وتتابع بنبرة حزينة:”بعد القبض علي، عاشت ابنتاي أياماً صعبة، ابنتي الكبرى مازالت تشكو من حالة نفسية بعد أن ظنت بأنني لن أعود إليها مجدداً، والأخرى تعاني من أمراض أخرى”.

تقر تيسير بعدم رضاها عما تقدمه في (تيك توك) من محتوى:”لكنه يوفر المال الذي ندفع به الإيجار ويغطي تكاليف المعيشة، بعد أن تركت العمل في النوادي الليلة لأن العمل فيها يورث المشاكل”.

وتؤكد تيسير العراقية بانها تلقت تهديدات عديدة بالتصفية عبر عبر رسائل في منصات التواصل الاجتماعي مثل “اجاج أبو الدليفري” والمقصود بها أن عامل خدمة التوصيل في طريقه إليك لقتلك، وهي إحدى الطرق الشائعة في الاغتيالات بالعراق كما حدث مع أم فهد وغيرها.

د.رنا السلمان، باحثة في الشأن السياسي والإجتماعي، تنتقد اعتقال المغنين والممثلين لمجرد الإبلاغ عنهم عبر المنصة “بلغ” ونشر الطريقة التي يتم بها “اعتقال الأبرياء وتوبيخهم”. وأشارت إلى قيام فنانين ورجال دين بتقديم اعتذارات لما نشروه او صدرت عنهم من أقول “نتيجة خوفهم وقلقهم من الملاحقة”.

هنا موضع فديو ضابط يحقق مع معتقلين

وتضيف:”شاهدت في وسائل الاعلام أخباراً تتعلق بإعتقال مغنين في مراقص ليلية ضمن حملة مكافحة المحتوى الهابط، وكان الأجدر بالجهات المعنية، وضع معايير يلتزم بها المغني بدلاً من اعتقاله”. ثم تستدرك:”وعلى مسارح المراقص الليلية ذاتها، تتراقص فتيات قاصرات، لماذا لايتم مساءلة إدارات المراقص تلك عن هذه المخالفة القانونية ؟”.

معدة التحقيق حصلت على معلومات تفيد باعتقال فنانين من مختلف انحاء العراق بتهمة المحتوى الهابط، قسم منهم يعملون في النوادي الليلية، وصدرت بحقهم أحكام تراوحت بين الحبس البسيط لثلاثة أشهر والحبس الشديد لسنتين.

إذ أعلنت وزارة الداخلية في بيان نشرته  يوم 6 آب/أغسطس2023 القبض على المغنية سجى ستار، الملقبة بـ(عنود الأسمر) بتهمة”اخلالها بالحياء واهانة فئة من الشعب” حسب البيان.

وتناقلت وسائل الإعلام في 29/7/2024 خبراً عن صدور حكم ضد مغنية سورية مقيمة في العراق أسمها رحاب محمد، ولقبها انجي فرح، بالحبس البسيط لمدة ثلاثة أشهر ويوم واحد بتهمة المحتوى الهابط.

ويبدي محامون ونشطاء ومدنون، استغرابهم من طبيعة حملة مكافحة المحتوى الهابط، ويشككون بدوافعها الحقيقية، مسجلين ملاحظات عديدة عليها، ويشيرون الى ان الحملة تواجه معضلة كبيرة فأصحابها يعرفون ان الكثير من ما يقدم في الملاهي هو محتوى هابط، بسبب أجواء التسلية السائدة فيها، فهل يحق لهم اعتقال وتجريم كل من يقدم فيها اغنية ذات كلمات جريئة أو حركات ايجائية.

يقول المحامي (د.ع) “حينها سيطال قرار الاعتقال الجميع”، مستدركاً “أم انهم يلاحقون من تظهر فقط فيديوهاتهم في وسائل التواصل؟ لكن حينها يمكن استهداف أي مغني أو راقصة هناك من خلال تسجيل فيديو له دون علمه ونشره على وسائل التواصل”.

ويلفت الى ملاحقات ليس لها علاقة بالمحتوى الهابط، كملاحقة “علي الجنوبي” وهو شاعر شعبي، وذلك بعد اجرائه لقاء تلفزيوني تضمن اشارة الى المثلية الجنسية.

وهو ما يجعل نشطاء ومدونين يعتقدون ان الحملة، بلا ضوابط قانونية دقيقة وفيها تجاوز على الحريات، بل انها في أساسها أداة لإستهداف أشخاص محددين وبدوافع معينة.

ويسخر المحامي (د.ع) من فكرة تهذيب المجتمع عبر هكذا حملات، قائلا :”من العبث ان تعتقد ان الحملة يمكن ان ترفع وعي المجتمع أو تنهي أو تخفف من حجم المحتوى الهابط المقدم، خاصة ان صاحبها يمكن ان ينتقل الى دولة أخرى ويقدم ذات محتواه دون ان يتمكن احد من منعه”، متسائلا:”ماذا يمكن ان تفعل ازاء محتوى يقدمه عراقي من خارج البلاد؟”.

توجه بوصلة الاعتقالات نحو الفنانين اضافة الى وجوه معروفة على وسائل التواصل لا تقدم فعلياً محتوى حقيقي، دفعت البعض منهم للتوقف عن نشاطهم وآخرين قدموا اعتذارات عما أدوه من من أغان حسبت على أنها محتوى هابط.

وهو ما حصل مع الفنان الشعبي سعدون الساعدي، الذي نشر مقطع فديو يظهر فيه وهو يعتذر عن أغاني قدمها في وقت سابق، قائلا:”انا ضد المحتوى الهابط ومع مجلس القضاء الأعلى ومؤيد لقرارات وزارة الداخلية، في السابق كانت الرقابة مفقودة ولكن من هذه اللحظة سوف نرسم الابتسامة على أوجه العراقيين ونحافظ على كلماتنا”.

وأفصح الساعدي في تشرين الثاني/أكتوبر 2024 خلال برنامج  تبثه قناة سامراء الفضائية عن سبب اقدامه على تقديم الاعتذار:”وردني اتصال من مسؤول لا أريد ذكر أسمه، طلب مني مسح اغنية لي من يوتيوب هي – علينا ناس هواي جانوا زعاطيط- إلا أن اليوتيوب لم يمسحها بسبب المشاهدات العالية التي وصلت الى 17 مليون ولهذا قدمت اعتذاراً” .

في 16/11/2024 أصدرت محكمة جنح الكرخ، حكما بالحبس لثلاثة أشهر وعشرة أيام بحق المغني، مرتضى العبودي، بتهمة المحتوى الهابط.

الهروب بعيداً

مينا (33سنة) من بغداد، تعمل حاليا مغنية في نادٍ ليلي باسطنبول، وتؤدي ادواراً تمثيلية تنشرها في تطبيق تيك توك، تم اعتقالها في 22 أيار/مايو2023، بتهمة المحتوى الهابط وأصدرت محكمة الكرخ حكماً ضدها بالحبس لثلاثة أشهر وعشرة أيام، وبعد إنهاء فترة حبسها، سافرت إلى تركيا. 

تقول:”لا أعرف لم حبسوني، ولا ماهي التهمة التي جعلتهم يلبسونني الثوب الأصفر الخاص بالمجرمين”.

وعن سبب مغادرتها البلاد، تضيف:”كنت خائفة من أن يدبروا لي تهمة أخرى، ففي التحقيقات يدخل المرء بتهمة المحتوى الهابط ولكنه قد يخرج بجريمة قتل أو تجارة مخدرات، لهذا غادرت إلى إسطنبول، اغني في ناد ليلي ولا أفكر بالعودة مجددا للعراق”.

ما هربت خوفاً من حدوثه، وقع بالضبط للراقصة في النوادي الليلية هديل خالد عبد رشيد السامرائي المشهورة في مواقع التواصل الاجتماعي باسم (أم اللول).

إذ تم اعتقالها بتهمة المحتوى الهابط وصدر حكم ضدها في 23 نيسان أبريل2024 بالحبس لأربعة أشهر وعشرة أيام وفقاً للمحامي المتوكل عنها محمد جمعة، الذي أكد خروجها بكفالة لأنها لم تكن مدانة سابقاً ولا متهمة بأي قضية أخرى.

“القرار كان ظالماً إذ استند على محتوى ببث مباشر، وهي لم تُجبر أحداً على متابعته” هذا ما يقوله، ويضيف:”لكن في مرافعة تالية، تم توقيفها من قبل القاضي متهماً إياها بإصدار ألفاظ خادشه للحياء، وهذا يعني قضائها فترة المحكومية البالغة أربعة أشهر وعشرة أيام”.

بعد انتهاء فترة الحكم، تم استدعاء ام اللول مجدداً، وحكم عليها بالمؤبد بتهمة المتاجرة بالمخدرات “دون أية أدلة جرمية” كما يقول محاميها “بل أن المدة بين توجيه التهمة وصدور الحكم لم تستغرق أكثر من عشرين يوماً”.

محامي أم اللول، نجح في اثبات أن اعترافها بتجارتها للمخدرات “انتزع منها بالإكراه” وذلك بعد عرضها على لجنة طبية مختصة، وهذا ما جعل محكمة التمييز، وهي أعلى سلطة قضائية في العراق، تنقض في مطلع تموز/يوليو2024 الحكم الصادر ضدها. قبل ان يصدر الحكم عليها بالسجن ست سنوات.

قمع حرية التعبير

بعد أقل من سنتين على إطلاق حملة مكافحة المحتوى الهابط، يبدو واضحاً أثرها على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ليس بما ينشر ويتابع مما يوصف بالمحتوى الهابط، بل انخفضت نسبة المواد التي تنتقد الواقع السياسي في العراق ومؤسسات الدولة بنحو يقدره باحث اكاديمي متخصص في علم الاجتماع بـ80%.

الباحث الذي أكد على عدم ايراد اسمه، يقول بأنه أعد دراسة بذلك، إلا أنه أحجم عن نشرها نظرا لحساسية النتائج التي توصل اليها وبينها، محاولة الحكومة ابعاد تركيز المجتمع عن قضايا خطيرة كالفساد، ولاسيما أن تقارير دولية تضع العراق دائما في مقدمة الدول الأكثر فساداً بالاستناد إلى وثائق وتسريبات كانت تنشر باستمرار في وسائل التواصل.

ويقول بشيء من السخرية:”قد تعد جهة ما هذه النتائج محتوى هابطاً أستحق عليه دخول السجن”.

ثم يعود للقول:”يمكن تأويل أي منشور لأي شخص وتكييفه على انه محتوى هابط ويصدر حكم ضد صاحبه بالسجن، هذا قمع واضح لحرية التعبير، وهم يستفيديون من عدم وجود معارضة لما يفعلونه، لأن أي معارضة ستعني دعم أصحابها لما يعدونه محتوى هابطاً!”.

ويذكر الباحث في اشارة الى التضييق على حرية التعبير، أن العديد من المؤسسات الحكومية قامت بمجاراة وزارة الداخلية ومجلس القضاء، لكن هذه المرة في ملاحقة صناع الرأي “فيما يبدو أنه توجه حكومي على مختلف الأصعدة”، بتعميمات أصدرتها لكوادرها منعتهم من الظهور الإعلامي أو قصرته بموافقات منها حصراً وفرضت عقوبات للمخالفين تصل إلى الطرد من الوظيفة.

ويطرح أمثلة على ذلك على ذلك، الأول، توجيه رئاسة الوزراء بالعدد(3015/ 2429297) في 27/8/2024 بالعدد ق/ح/2/5544 لوزارة التعليم والبحث العلمي، والمتضمن “ظهور تدريسيين من كليات القانون في لقاءات تلفزيونية ممن يتصدون بالتعليق أو المناقشة لمسائل قانونية مطروحة أمام القضاء أو مجلس النواب وغيرها من المؤسسات، وتتضمن أحاديث بعضهم إشارات الى السلطات العليا في الدولة او مؤسساتها بعبارات لايتوافر فيها المستوى اللازم من الاحترام…..”.

واشترطت رئاسة الوزراء لظهور أساتذة القانون في الإعلام على موافقة كلياتهم ووجود مصلحة عامة لظهورهم وبخلاف ذلك يحالون إلى التحقيق الإداري استنادا إلى أحكام المادة(10/اولاً) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 والقوانين الأخرى التي تنظم شؤون الوظيفة العامة.

والثاني، توجيه نقابة المحامين العراقيين كتابا بالعدد م/50 في 6/8/2024، إلى هيئة الإعلام والاتصالات تطالبها باتخاذ إجراءات قانونية ضد وسائل اعلام يظهر فيها محامون بدون تخويل من النقابة.

وكانت النقابة قبلها قد وجهت غرف انتداب المحامين في المحاكم العراقية جميعا، باعداد قوائم بأسماء المحامين الذين يريدون الظهور في الإعلام، وفرض عقوبات تاديبية على كل محامي يصرح في الاعلام دون تخويل.

والثالث، توجيه مطار النجف الدولي بالعدد 24/884 في 3/11/2024 للأقسام كافة بإنهاء عقد أي متعاقد ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي “بسوء عن مطار النجف”، وهذه مجرد أمثلة عن تعميمات ادارية نشرت سابقا ضمن ذات التوجه المقيد لحرية التعبير.

ذلك التوجه انعكس بشكل واضح على ظهورالمحامين والنشطاء الرافضين لتعديل قانون الأحوال الشخصية، على وسائل الاعلام، بعد ملاحقة بعض الذين ظهروا على وسائل الاعلام وتعرض محاميتين لحملات تشويه لسمعتهن. 

في وقت مرت فيديوهات، للكثير من المدافعين عن التعديل، من رجال دين ونشطاء، وفيها تشهير وتجاوز بل وتهديد، دون ان أي ملاحقة وحساب.

يقول مدون، فضل الاشارة اليه بالأحرف الاولى من اسمه (س.ن)، تابع الهجمات التي تعرض لها منتقدو تعديل قانون الأحوال الشخصية:”شهدنا حملات قادتها الجيوش الألكترونية الممولة من أحزاب، جيوش ما زالت بعيدة عن الملاحقة رغم ما تنشره من معلومات مضللة واستهداف لشرائح مجتمعية ورسائل تسقيط”، مذكرا أيضا بحجب مواقع الكترونية دون أسباب واضحة مثل موقع “التراعراق” ووكالة ABC بينما تضطر مواقع اخرى بشكل شبه يومي الى حذف بعض أخبارها تحت الضغط.

في مساء 23 تشرين الثاني نوفمبر 2024، كشفت جهات اعلامية عن ملاحقة سيارة مظللة بدون أرقام، للصحفي جمال البدراني المعروف بتغطياته المهنية للأوضاع في محافظة نينوى، وقيام ثلاثة اشخاص ينتمون الى فصيل مسلح بالاعتداء عليه بالضرب.

يعلق الأستاذ الجامعي والناشط السياسي الدكتور على بشار، على الحادث، قائلا ان “وجود سيارات مظللة بدون ارقام تمارس الارهاب والتهديد على الناس وتبتزهم وتعتدي عليهم يعني ذلك ان الدولة نائمة، لا يوجد في العالم المحترم سيارات مظللة بدون ارقام تجوب الشوارع دون محاسبة”.

وطالب بشار، بوقف تلك الممارسات، التي تقف وراءها قوى نافذة، قائلا:”لسنا في غابة لكي يركب هذه السيارات اشخاص لا يحترمون الدولة ولا مؤسساتتها ولا قانونها ويمارسون بربريتهم على الناس”.

تداعيات عميقة

بسبب تلك الضغوط والحملات الممنهجة من قوى حاكمة، والتي انعكست سلبا على الحريات الشخصية وعلى حرية التعبير، تغير ما يقدمه الكثير من الناشطين والمدافعين عن حقوق الانسان، ولم يعد ينتقدون مباشرة سياسات الحكومة العراقية والفساد السائد في المؤسسات.

تقول ناشطة مدنية ومدافعة عن حقوق المرأة فضلت عدم ذكر اسمها خوفاً من الملاحقات القانونية:”الإجراءات الحالية مرعبة وأنا لم أعد انشر إلا بعض الحكم والأمثال وبعض الأمور الأخرى التي قد لاتهم احداً آخر غيري”.

وتشير إلى أنها على علم بالكثير من أصدقائها الناشطين في المجالين المدني والسياسي، الذين اغلقوا حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وامتنعوا عن الظهور الإعلامي، لكي يتجنبوا “تهمة المحتوى الهابط انتقاماً منهم”.

ويرى مدونون ان حملة (مكافحة المحتوى الهابط) التي قيدت الحريات، استهدفت بشكل غير مباشر أصحاب الرأي وصناعه، ولاسيما الذين ينتقدون سياسات القادة والزعماء السياسيين والأحزاب والقوى المسلحة.

يشير الناشط والحقوقي تحسين عبد السلام، إلى الكتاب الذي وجهه رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، بالرقم 204 في الثامن من شباط/فبراير2023  إلى رئاسات الادعاء العام والإشراف القضائي ومحاكم الإستئناف كافة، جاء فيه: لوحظ من خلال رصد مواقع التواصل “نشر محتويات تسيء للذوق العام….. وتشكل إساءة متعمدة للمواطنين ومؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمسميات ….”.

ويستدرك تحسين:”إيراد مؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمسميات، وإقحامها بملف المحتوى الهابط، منح الأجهزة الأمنية حرية التحرك ضد شخصيات كثيرة عرفت بإنتقادها لمؤسسات الدولة الغارقة في الفساد، ولشخصيات مشاركة في العملية السياسية”.

وتساءل:”ماعلاقة شخص يعبر عن رأيه تجاه مخالفات يرصدها في دائرة حكومية أو قام بها حزب او شخصية سياسية، بصانع محتوى يسيء للذوق العام ويخالف أخلاق المجتمع؟”. وذكر بأن الإعلام الممول سياسياً سلط الكثير من الضوء على اعتقال مدونين بتهمة الإساءة للمجتمع، وتجاهل في ذات الوقت اعتقال صحافيين وناشطين معارضين للسياسات الحكومية ومطالبين بالإصلاحات.

ويتهم الحقوقي الأحزاب السياسية بتحريك القضاء وفقاً لرغباتها، لمنع حدوث حراك شعبي جديد كالذي وقع في تشرين الأول/أكتوبر2019 والتي عرفت بـ”ثورة تشرين”.

ويقول بأن السياسيين ادركوا بأن صناع الرأي كان لهم تأثير قوي في اشعال فتيل الحراك الذي تم قمعه وسقط المئات خلاله قتلى وجرح الآلاف برصاص مسلحين عرفوا بـ(طرف ثالث).

ويضيف:”وسائل التواصل كانت سببا في استمرار تشرين لفترة طويلة” لهذا قاموا باستهدافها عبر حملات ممنهجة.

ويرى كذلك، بأن “الطبقة السياسية التي تحاول تمرير قوانين مثيرة للجدل عبر أحزابها وممثليها في مجلس النواب مثل تعديل قانون الأحوال الشخصية، وجدت في المحتوى الهابط وسيلة لتكميم افواه المعترضين”.

مع هذا التوجه، لم تعد تظهر غالبية الأصوات التي كانت تكشف للرأي العام مخاطر تمرير بعض القوانين، أو تنبه الى ملفات فساد بمؤسسات الدولة. ولم يقتصر الأمر على منع الظهور أو توجيه الاتهامات بالمحتوى الهابط او التضييق على صحفيين، بل أيضاً إلى تلفيق تهم لهم بجرائم خطرة.

وهذا ما يفيد به موظف في المجال القانوني، نحجب اسمه ومكان عمله بناء على طلبه، إذ يقول بأن محكمة جنايات نينوى أصدرت في شهر تشرين الأول/اكتوبر2024، حكما بحبس الصحافي زياد السنجري، لسنتين بتهمة انتحال صفة قاضي.

وقال بأنه سيمثل لسبعة محاكمات أخرى بتهم عديدة أخرى من بينها الابتزاز:”مع أن لاعلاقة له بأي من التهم الموجهة إليه، فهو كان معروفاً بنشر وثائق تسرب إليه من موظفين في مؤسسات الدولة تتعلق بملفات فساد في مؤسسات الدولة”.

ويذكر أن زياد السنجري، الذي اشتهر بطرحه ملفات الفساد عبر حسابه في فيس بوك وقنوات فضائية عديدة، كان مقيما في فيينا بالنمسا منذ سنة 2014 ولدى عودته لزيارة أهله في مدينة الموصل صيف 2024، ألقت عناصر من الأمن الوطني القبض عليه.

وشكلت تلك الواقعة مع تزايد الضغوط على الصحفيين والمنصات الاخبارية، الى جانب تداعيات ملاحقات حملة المحتوى الهابط، إلى انحسار الانتقادات الموجهة للحكومة ومؤسسات الدولة والقوى المسلحة الحاكمة، في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، حتى باتت احادية الخطاب هي السائدة بعد 20 عاما من التغيير.

أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية ضمن منحة CFI.

إقرأ أيضا