صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

ملحمة كلكامش والحزن السومري.. كيف واجه العراقيون القدامى أحزانهم؟

في مدينة أوروك، مسقط رأس الكتابة الأولى، المدينة التي حكمها الملك الأسطوري كلكامش، تبدأ حكاية الملحمة الخالدة وقصة الصراع مع الحياة والحب والموت، توصف هذه الملحمة أحيانا بكونها أقدم قصة في التاريخ ويتردد صداها منذ 4000 سنة قبل الميلاد فيصفها عالم البابليات وأستاذ اللغات والحضارات الشرقية البريطاني أندرو ر. جورج، بأنها “ثاني أكثر النصوص الشرقية تأثيرا في العالم المعاصر بعد الكتاب المقدس”.

وفي دراسة حديثة نشرتها عدة مواقع علمية لعالمة الآثار البريطانية والمختصة باللغات القديمة موضي الرشيد -من جامعة اكسفورد- تكشف فيها عن جانب آخر خفي من الملحمة، وهو كيف واجه العراقيون القدماء أحزانهم؟ كيف عبروا عنها؟، جاء في دراستها: أن نص الملحمة دون على 12 لوحا طينيا، وكتب بالأكادية وبأسلوب أدبي رفيع وحملت الألواح توقيع كاتبها باسم (سن- ليكي- ويني). قصة الملحمة -باختصار- رحلة البطل، حيث يتبع مجرى نهري دجلة والفرات خارج العالم المعروف آنذاك بحثًا عن ناجٍ من طوفان نهاية العالم يُدعى أوتا نابشتم. يشهد النص على تحول كلكامش من ملك قاسٍ إلى ملك طيب. محور هذا التحول كان علاقته بصديقه إنكيدو، الرجل البري الذي أرسلته الآلهة لوضع حد لحكم كلكامش الاستبدادي، ثم أصبح أقرب أصدقائه. يقوم الصديقان بسلسلة من المغامرات معًا والتي تبلغ ذروتها في ذبحهم الثور السماوي، والأمر الذي أغضب الآلهة فعاقبتهم بموت إنكيدو.

Image

‏اللوح الذي يمثل لقاء كلكامش وانكيدو بحارس غابة الأرز (هواوا)

يكشف نص الملحمة رد فعل كلكامش على وفاة إنكيدو بصورة محزنة عن الأسى والحزن الذي تملكه وهو يحدق في جسد صديقه، ويصرخ: “الآن أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟” ويمد يده ليشعر بنبضات قلبه وعندما لا يجد شيئًا، يغطي وجهه ثم يسير ذهابًا وإيابًا مثل لبوة فقدت أشبالها، وينتف شعره ويمزق ملابسه ولمدة سبعة أيام وليالٍ، يبكي على إنكيدو ويرفض السماح بدفنه حتى تخرج يرقة من أنف الجثة المتحللة وبعد جنازة لائقة، يستمر كلكامش في البكاء بمرارة ويهيم على وجهه في البرية خارج أسوار أوروك، اذ يقول “لقد حل الحزن في جوفي”. “أصبحت خائفًا من الموت وأتجول في البرية.”، ولعل هذا الشعور سيعانيه أي انسان يكابد الخسارة.

يطوع الكاتب اللغة لتلائم حزن كلكامش مع طقوس الحداد في ذلك الوقت، البكاء والنحيب ونتف الشعر وتمزيق الملابس، والعزلة عن الآخرين ويستحضر هيام كلكامش على وجهه في البراري فكرة المصيبة في بلاد ما بين النهرين القديمة كما صورتها النصوص الطبية لذلك العصر، ففي نفس الوقت الذي دون فيه (سن- ليكي- ويني) نص الملحمة، دون كاتب آخر وعلى 40 لوحاً طينيا وصفات لعدة أمراض كالنوبات المرضية المفاجئة والآفات الجلدية، وتتطرق هذا الرقم الطينية الى وصف حالة الاكتئاب والحمى والبكاء والغثيان والهذيان، حيث يتطابق يستخدم الطبيب نفس المفردات التي عبرت عن حزن كلكامش، فالحزن حالة إنسانية يتساوى فيها الملوك الأسطوريون والمرضى البسطاء مجهولو الحال، فكلاهما عندما شعروا بالحزن بكوا وناحوا وهاموا على وجوههم في البراري، وفي وقت ما، وربما طلبوا المساعدة من طبيب.

لا يعكس هيام كلكامش على وجهه في البراري حالة من الاضطراب الداخلي فحسب، بل ويحفزه على السعي وراء سر الحياة الخالدة، متعكزا على حزنه وخوفه من مواجهة مصير صديقه إنكيدو. ولم يجد من خيار سوى أن يتعلم هذا السر– سر الخلود- من أوتا نابشتيم، الناجي الوحيد من الطوفان، الذي يعيش خارج حدود العالم المعروف آنذاك، عند “مصب النهرين” الأسطوري (دجلة والفرات)، وللوصول إلى ذلك، يجب عليه أن يمر عبر جبل ماشو الى بوابات الأفق، حيث يشرق ويغيب إله الشمس. يحرس البوابة حارسان وحشيان نصفهما بشر ونصفهما الآخر عقرب، ويجب على كلكامش أن يتخطاهما، تظهر الأجزاء الباقية من الملحمة على الأسطر القليلة الأخيرة من كلامه، وهي إشارة واضحة على “حزنه” و”إنهاكه”.

Image

‏تمثال كلكامش من الفترة الآشورية بالقرن الثامن قبل الميلاد

لا تعاني اللغة الأكدية من شحة الألفاظ التي تعبر عن الحزن، لكن الكاتب استخدم مفردة nissatu وهي تعني النحيب الذي يصدره الإنسان أثناء طقوس الحداد، نفس هذه المفردة تدل على حالة من الاكتئاب الحاد الذي يتلقى المصاب له علاجات طبية في ذلك الوقت، حيث اكتشفت قائمة طويلة من هذه العلاجات المختلفة التي تُعطى لتحسين نفسية المريض المكتئب في بيت آشوري بمدينة آشور، عاصمة للإمبراطورية الآشورية، إنه جزء من مجموعة من الرقم الطينية الخاصة بطارد الأرواح الشريرة الذي يُدعى Kisir-Ashur ويتضمن تعليمات للعلاج بالأعشاب “حتى لا يقترب الحزن من رجل”. (الكلمة الأكادية نفسها، نيساتو، تجد طريقها أيضا إلى العلاجات الطبية كدواء حيث تترجم حرفيًا إلى “نبات الحزن”، والذي حدده عالم الآثار البريطاني ريجينالد كامپبيل ثومپسون ذات مرة بكونه (حشيش القنب) نظرًا لاستخدامه في علاج مرضى الاكتئاب.

ما يقوله كلكامش عن حزنه وإرهاقه يقنع حارسي البوابة (الانسان- العقرب) بالسماح له بالمرور إلى منطقة شديدة السواد وراء جبل ماشو ليخرج كلكامش من حدود العالم المعروف ويدخل إلى أرض مجهولة، إلى بستان من الأشجار المرصعة بالأحجار الكريمة -العقيق الأحمر واللازورد والمرجان- يمضي خلاله للوصول إلى شاطئ البحر، وهناك يجد حانة تديرها امرأة تدعى سيدوري، تعرف الطريق إلى أوتونابشتم وعند رؤيتها للبطل المتعب، سألته: “لماذا يوجد حزن في بطنك؟”، هناك نسخة قديمة من الملحمة تحدد مكان حزن كلكامش ليس في بطنه، بل في القلب. قال لصاحبة الحانة: “قلبي مشتاق لصديقي لأنكيدو”، والقلب في اللغة الأكديةlibbu ، عضو الفكر والعاطفة الذي يمكنه التأمل والتخطيط والتحدث والشعور.

في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، قامت مجموعة من علماء الآثار البريطانيين والأتراك بالتنقيب في موقع آشوري يُعرف باسم Sultantepe أسفر عن حوالي 400 لوح كتبته مجموعة من العلماء والكهنة بين 718 قبل الميلاد و611 قبل الميلاد، حيث يصف أحد الألواح مريضا يشعر بالخوف في قلبه والاكتئاب والارتباك، وكان العلاج سلسلة من الطقوس المعقدة، من بينها سكب القير الساخن على تماثيل الساحرات.

Image

‏اللوحات للفنانة ربيكا يانوفيسكيا

القلب، كما نعلم، يمكن أن ينكسر حزناً، في لوح مسماري طبي من مكتبة آشور بانيبال (القرن 17 قبل الميلاد)، يشعر الشخص ذو القلب الكسير أيضا بالانفعال ويبدو كئيبا ويعاني من انخفاض الرغبة الجنسية. يصف النص الطبي بشكل مشابه من آشور المجاور، انكسار القلب بأعراض اخرى كالرعب والخوف، بينما يضيف نص آخر حزنا وأفكارا حمقاء تنبع أيضا من القلب. رسالة من طبيب يُدعى (نابو- تبني- أوسر) يشكو من إجهاده أثناء خدمته داخل البلاط الملكي في وقت قريب من عهد الملك آشور بانيبال. حيث كتب: “في حين أن جميع زملائي سعداء، فإنني أموت من قلب كسير”. إذا كنت قلقًا أو مكتئبًا في بلاد ما بين النهرين القديمة، فقد قيل إنك تعاني من حسرة في القلب.

من مئات الآلاف من النصوص المسمارية الباقية، يستخدم كلكامش الحزين والقلب المنكسر (نابو- تبني- أوسر) تعبيرات عن الحزن والتوتر لا تزال تتردد حتى اليوم، فإن هذه الأحزان والضغوط هي تجارب قديمة قدمها الإنسان.

بالعودة إلى رحلة كلكامش، ترضخ سيدوري صاحب الحانة في النهاية لمطالبه، وترشد كلكامش إلى “مياه الموت” التي يجب عليه عبورها للعثور على أوتا نابشتم. يلاحظ أوتا نابشتم مظهر كلكامش البائس، مثل شخص مليء بالحزن ابتعد عن مدينته. يمكننا أن نتخيل رجلا عجوزا ملتحيا يهز رأسه في وجه البطل الشاب الواقف أمامه ويسأل: “لماذا يا كلكامش، هل تطارد الحزن باستمرار؟”، ومن خلال متابعة رحلته، يأمل كلكامش في الحصول على الحياة الأبدية من أوتا نابشتم، ولكن بدلاً من ذلك يخبره أوتا نابشتم، بأن “الآلهة خلقت الحياة الهشة والموت الذي يمكن أن يهجم في أي وقت، لا أحد يرى وجه الموت، لا أحد يسمع صوته، ومع ذلك فإن الموت الغاضب هو الذي يقطع الإنسان”. الموت لا مفر منه ولا تكمن الحياة الأبدية في بقاء إنكيدو أو كلكامش أو أي فرد آخر، بل في بقاء المجتمع. على الرغم من أن بحث البطل عن الخلود أثبت عدم جدواه، لكنه في النهاية اكتسب الحكمة لقبول أن كل الحياة يجب أن تنتهي، وأن أفضل طريقة للحفاظ على ذكرى إنكيدو، هي أن يكون ملكًا جيدًا يحمي حياة رعاياه ويمكنه التوقف عن الحزن والمضي قدمًا. وعند عودته إلى أوروك، ينقش كلكامش اسمه في لوح حجري ويضعه في أساسات أسوار المدينة ليجدها شخص ما في يوم من الأيام.

Image

‏إنكيدو صديق كلكامش من أور 2027-1763 قبل الميلاد (متحف العراق)

آخر مخطوطة معروفة لملحمة كلكامش من العصور القديمة كتبها عالم فلك تحت التدريب يُدعى (بيل- آهي- أوسور) في عام 130 قبل الميلاد، لكن ذكرى كلكامش لم تمت، وتذكرنا ملحمته الخالدة بأن فهم الحزن قديم مثل أقدم كتابات العالم، وأن جزءًا مأساويًا لا مفر منه مع كوننا بشرًا وهو تعلم العيش دون من نحب.

إقرأ أيضا