من حقنا نحن العراقيين ان نحتفل بثورة الرابع عشر من تموز لأنها مفصل أساسي في تاريخنا المعاصر، حققت للعراقيين نقلة نوعية في حياتهم لم يعد ممكنا الغاؤها فيما بعد. لكن من حق هذه الثورة علينا ايضا، وبعد مرور كل تلك السنين ان نفتح ملفاتها الشائكة لنتبين مواضع الخطأ والصواب فيها، وهذا لا ينتقص من قيمتها ومكانتها انما يعزز فهمنا لتاريخنا. اما الاكتفاء بالاحتفاء بذكراها فانه يسطح المغزى التاريخي للثورة ويحولها الى مناسبة نمطية باهتة فقدت معناها منذ سنين طويلة.
واحد من هذه الملفات التي ينبغي ان تفتح هو ملف شخصية عبد الكريم قاسم ودوره في قيادة البلاد لسنوات ما بعد الثورة. هذا الرجل تحول الى ايقونة للثورة لا يصح المساس بها، لأنه مساس بقدسية الثورة ومنجزاتها، وهل هناك اصلا ثورة مقدسة في التاريخ؟.
يذكر كثيرون لعبد الكريم قاسم نزاهته المالية وزهده وبساطة عيشه، وهذا صحيح، لكنه متأت على ما يبدو من مقارنته بمن جاءوا بعده ونمط حياتهم الباذخ وشراهتهم في السطو على المال العام. لكن كثيرين ايضا لم ينتبهوا الى ان النزاهة المالية كانت سمة ذلك العصر لا الاستثناء كما هو الامر اليوم. لم يعرف عن الغالبية الساحقة من رجالات العهد الملكي ان ايديهم قد امتدت الى المال العام، بل حتى ان الاسرة المالكة كانت تعيش على رواتب تحددها لها الدولة وفي قصور تمتلكها الدولة، وعنما تحتاج الى مال اضافي تقدم طلبا الى الحكومة قد يرفض او يقبل.
من كان عبد الكريم قاسم؟ كان الرجل عسكريا يحمل لوطنه احلاما عريضة بالرخاء وارساء اسس دولة حديثة. لكنه جاء ليحكم العراق بلا خبرة سياسية على الاطلاق اذ كانت كل خبرته هي في قيادة القطعات العسكرية بنظام ضبط صارم يقوم على الأمر والطاعة، وهذه خبرة لا تصلح في السياسة التي تقوم على المناورة والالتفاف وعلى الصراعات، ما ظهر منها وما بطن، وعلى توازن القوى واصطفافاتها المجتمعية وعناصر اخرى محرم دخولها الى الجيش الذي هو كل واحد يسكن بدلة من الخاكي. هل حاول الرجل ان يقود العراق على الطريقة العسكرية في مشهد انفلت عقاله وسط صراع محموم على المصالح الخارجية والداخلية؟ ما هو دور القوى السياسية في صعود عبد الكريم قاسم الى صدارة المشهد؟ كيف انفرطت بتلك السرعة المذهلة جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت الاحزاب السياسية الناشطة آنذاك والتي تحالفت مع الضباط الاحرار في تنفيذهم للجانب العسكري منها؟ ولماذا استأثر الجانب العسكري بالحكم وكيف تمكن من ازاحة الاحزاب من المشهد ووقف يتفرج على اقتتالها الدموي؟ وأخيرا، هل كان الرهان على عبد الكريم قاسم وحده صحيحا؟.
تلك تساؤلات ظلت معلقة خمسة وخمسين عاما . وكل تموز وانتم بخير.