إن تحديد تاريخ معين لبداية العلاقات السورية المصرية، ضرب من المستحيل لا يمكن إدعاؤه، بل أن هذه العلاقات قد قامت على مر العصور، ومختلف الأزمان، وقبل أن تدخل الدولتان في رحاب الدين الإسلامي.
إن سورية ومصر كانتا منذ أمد بعيد تبحث إحداهما عن الأخرى، وتصبوان الى إنشاء حاجز منيع في وجه المطامع الأجنبية التي تريد تفكيك هذين البلدين، وقد تحقق هذا الهدف منذ آلاف السنين حيث تزاوجت الحضارة الفينيقية السورية والحضارة الفرعونية المصرية، ونشأت أول وحدة سياسية كاملة في التاريخ، وقد كوّن هذا اللقاء الحضاري النواة الفعلية لمواجهة هذه الأخطار.
ترتبط سورية ومصر بعلاقات سياسية متميزة على كافة الأصعدة وفي مختلف القضايا فضلاً أن هناك اتفاق كامل بينهما في معظم القضايا المشتركة منذ النضال من أجل الاستقلال ومواجهة أطماع الدول الاستعمارية، ولذلك فلم تأت الوحدة التي قامت بين سورية ومصر عام 1958 من فراغ، ولم يكن قيام الجمهورية العربية المتحدة إلا حلقة في سلسلة طويلة ومتصلة تشكل ربطاً تاريخياً حتمياً يربط بين سورية ومصر ويصنع ملامح وتفاعل العلاقات بين البلدين، إن العقدان الأخيران شهدا دعماً مصرياً غير محدود للجانب السوري في موقفه من التفاوض مع إسرائيل، حيث تقف مصر الى جانب سورية في مطالبها وحقوقها العادلة من منطلق إيمانها أن الموقف السوري سليم تماماً، وإنه يجب أن يكون جوهر أية مفاوضات وأي اتفاق سلام أن يكون مبنياً على الانسحاب الكامل من الجولان المحتل الى خطوط 4 يونيو عام 1967.
فمنذ تسلم الرئيس محمد مرسي السلطة في مصر بدا الفتور واضحاً في العلاقات السورية المصرية من خلال إتخاذه موقفاً متشدداً حيال الأزمة السورية حيث أعلن في مؤتمره \”نصرة سورية\” الذي أقيم بإستاد القاهرة، أن مصر قررت إغلاق سفارة النظام السوري وسحب القائم بالأعمال المصري في دمشق، وكان هذا القرار مفاجئاً وغير متوقع في توقيت صدوره مع تراجع فرص انعقاد مؤتمر جنيف 2 الهادف الى التوصل الى حل سياسي للأزمة السورية.
في إطار ذلك سارع وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى للتعبير عن دهشته من قرار محمد مرسي بقطع العلاقات مع سورية وقال في تصريح صحافي له \”دهشت من خطوة قطع العلاقات في هذا الوقت\”، وأكد جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية \”إن هذا القرار يمثل مغامرة غير محسوبة العواقب لكونه يضع الحكومة المصرية في حال عداء مباشر مع سورية من دون أي داع أو مقابل، وأشار محمد مجاهد الزيات مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية في القاهرة\” إنه كان من المفترض أن يظل الباب مفتوحاً أمام تنشيط المبادرة الرباعية التي طرحتها مصر لحل الأزمة السورية\”.
وبالمقابل صرح وزير الخارجية السوري وليد المعلم، بأن هذا القرار كان مفاجئاً وأنه جاء لأسباب خاصة، منها إرضاء السلفيين وأنه يواجه معارضته الشعبية.
واليوم أصبح هناك تغيرات جذرية هامة وسريعة على الساحة العربية والدولية في النظام الحاكم في مصر، حيث اتسعت رقعة النهوض في صفوف الشعب المصري المناهض لحكم الإخوان والإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي المنتخب، بعد المظاهرات المليونية وغير المسبوقة التي خرجت في 30 يونيو للمطالبة برحيله.
ويعد قرار وزارة الدفاع المصرية بعدم تدخل الجيش بأي حرب خارجية قراراً حكيماً لأنه جاء بناءً على رغبة شعبية عريضة، كونه فتح الباب أمام مجال آخر في العلاقات الثنائية بين البلدين، مؤكداً أن قطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية من قبل الرئيس المصري المعزول محمد مرسي كان بمعزل عن الدوائر الرسمية المصرية، بل جاء محصوراً بين الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين.
إن الخطوات لاستعادة العلاقات السورية المصرية بدأت بالاستجابة للمطلب السوري بإعادة فتح القنصلية السورية في القاهرة، وعودة القائم بالأعمال المصري الى سورية وإعادة فتح السفارة السورية في القاهرة.
إن قرار عودة العلاقات السورية المصرية كان أمراً لا بد منه ومطلباً سورية ومصرياً بل وعربياً أيضاً، فما من شك إن كلا البلدين لهما وزنهما وأهميتهما في المنطقة العربية، إذ يجب ان تبقى سورية ومصر على وئام ووفاق انطلاقاً من استيعاب دروس التاريخ وعبره، وهذه الدروس والعبر تؤكد أنه كلما كانت سورية ومصر في خندق واحد، وموقع واحد متضامنتين فإن ذلك يحقق الأمن والاستقرار للوطن العربي، وعلى النقيض من ذلك فإنه كلما فترت هذه العلاقة فإن المردود السلبي لن يقتصر على الشعبين السوري والمصري وإنما يمتد ليشمل شعوب الأمة العربية، ولذلك ينظر الشعب السوري الى هذه العلاقة على أن لها أهميتها وعمقها وحيويتها الآن وفي المستقبل لإنه ليس في مقدورنا أن ننفصل عن تاريخنا وتراثنا وحاضرنا.
ومما سبق أرى أن هناك شيئاً من التحفظ الحذر في استمرارية التعاون والتنسيق السوري المصري في هذه المرحلة الحرجة مع بقاء الاحتمالات الأخرى مفتوحة ولو بدرجة ضعيفة لعدم وجود ثوابت تحكم علاقات النظام عموماً، لكن كما نرى فإن المسار التعاوني ما زال هو الراجح والعلاقات تتسم بالدفء منذ عودتها رغم بروز مظاهر سلبية يمكنها عرقلة هذا المسار وإبقاءه عند حدود معينة.
وعلى ضوء ذلك يمكن أن أضع ثلاث سيناريوهات لاتجاه العلاقات السورية المصرية بناءً على مدى تأثرها بمتغيرات البيئة العربية والإقليمية والدولية وهي:
السيناريو الأول: تدهور العلاقات السورية المصرية واتجاهها نحو التنافر والتنافس وبالتالي فإن هذا السيناريو مرتبط بتدهور الوضع العربي باتجاه التبعثر أو التفكيك ويستند على، ازدياد الدور الإسرائيلي في سياق التفاعلات العربية – العربية، وحالة الضعف القائمة في الوطن العربي والمرتكز على مظاهر التجزئة والتشتت، بالإضافة إلى بقاء الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط واستمرار الضغوط الأمريكية على العلاقات العربية- العربية بشكل عام والعلاقات السورية المصرية بشكل خاص مما تعوق تطورها واستمرارها في اتجاه تهدد مصالحها في المنطقة العربية.
السيناريو الثاني: استمرار الفتور في العلاقات السورية المصرية، حيث ان هذا السيناريو مرتبط باستمرار حالة الخلل في التوازن على كافة المستويات الإقليمية والدولية ويستند على العمل على غرس مظاهر التشتت والفرقة في الواقع العربي وتطويق أية تطورات إيجابية باتجاه حشد الطاقات والإمكانيات العربية، وغياب مظاهر التعاون والتنسيق بين الدول العربية، بالإضافة الى اختلال توازن القوى لصالح إسرائيل وبدعم أمريكي يضمن أمن إسرائيل.
السيناريو الثالث: إعادة تمتين وبناء العلاقات السورية المصرية واتجاهها نحو التنسيق والتعاون، حيث ان هذا السيناريو مرتبط بخصوصية العلاقات السورية المصرية وتميزها إنطلاقاً من أن الأمن القومي لا يكتمل إلا بجناحيه \”سورية ومصر\” وحرص كل منهما على استمرارية العمل والتنسيق لمواجهة التحديات التي تواجه البلدين على كافة المستويات ويستند هذا السيناريو على، إقامة علاقات واسعة من التعاون والتنسيق متعددة الجوانب، بالإضافة الى مقاومة المحاولات الهادفة الى فرض مظاهر الاستسلام واليأس في الواقع العربي، وإيجاد القواسم المشتركة لتصليب الموقف العربي وعقلنته لكي يخدم المصالح العربية لأن التعاون السوري المصري هو العمود الفقري للتضامن العربي، فضلاً عن ازدياد الجمعيات الأهلية العربية غير الحكومية مما يساعد على تدعيم العلاقات العربية – العربية.
وفي إطار ذلك أرى بأن السيناريو الثالث هو أكثر الاحتمالات حدوثاً وذلك لتوفر كافة الأسس التاريخية والموضوعية لتحقيقه.
إن النهوض بمستوى العلاقات السورية المصرية يتطلب العمل الجاد والحد من العوامل التي تؤدي الى التنافس وتطوير العوامل التي تؤدي الى التعاون رغم أن تحقيق ذلك لن يكون بالأمر السهل وذلك لتأثيره بعوامل متعددة تكون مفروضة من الخارج.
إن ما سبق يؤكد حاجة البلدين الى آليات تساعد على تحديد الأسس أو الأرضية المشتركة التي يمكننا من خلالها رسم صورة لمستقبل العلاقات السورية المصرية في ضوء المعطيات الراهنة للوصول الى أقرب نقطة ممكنة من نقطة التوازن، كما انه يجب أن يكون هناك هدف سياسي واحد وأن تتكامل السياسة والاستراتيجية للبلدين وكذلك السير نحو التكامل بدلاً من التنافس، وحشد الطاقات لمواجهة التحديات الراهنة التي ظهرت في ضوء النظام العالمي الجديد، وتعميق جوانب التعاون والوصول الى نقطة التوازن تحقق مصالح البلدين وتحمي أمنهما القومي، بالإضافة الى تعزيز الأمن القومي للنظام الإقليمي التي يشكلان فيه منطقة القلب، والعمل الدبلوماسي المدروس بفعل التشاور الدائم للحد من القيود والضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرضان لهما.
وأخيراً نثق أن تأصل وتطور العلاقات السورية المصرية الممتدة جذورها وفروعها من المحيط الى الخليج هو الذي يستطيع الآن ان يقيم توازناً جديداً في المنطقة وأن يحدث تغييراً مهماً في معادلة إدارة الصراعات، وان ينتزع زمام المبادرة من أيدي إسرائيل المطلقة بقرار أمريكي منحاز وأن يبطل جميع التحالفات الهادفة لضرب سورية ومصر وتهميش دورهما.
• كاتب سوري