في أواسط السبعينات من القرن المنصرم، أراد أبي أن يتخلص من اندفاعاتي الدينيّة المتهوّرة ويبتر ترددي على العتبات والحسينيات المرصودة من رجال الأمن. فاقترح عليّ السفر خارج العراق ليخفف وهج الالتزام، أو لعلّي اعتاد طريق الانحراف الذي يضمن حصانة الشباب من قبضة النظام. حجزت مقعداً على رحلة جماعيّة سياحيّة (روما – مدريد – لندن) لمدة شهر. وتوكلت على الحيّ القيّوم في أنْ يحصّنَ فرجي، ويقوّي إيماني وأن لا أفشل في هذه التجربة وأعود كما كنتُ ناصع البياض عذراء الأطراف.
وصلنا مطار روما. استقبلتنا إحدى الحنطاويّات. لملمتنا وأخذتنا إلى فندق Ritz . استقرّت في غرفتي لوحدي، فكَّرتُ أولَ ما فكّرت بالصلاة. وحين دخلت الحمام للوضوء، تفاجأت بهذا المخلوق الغريب. كيف سأتعامل معه؟ وأي حكم ينطبق عليه؟ تدبَّرتُ حالي بهيئةٍ لا أرغب بوصفها. وحين رجعتُ للغرفة، بحثتُ عن مكان طاهر للصلاة. لم أقتنع بأيّة بقعة. ولم يبقَ أمامي إلّا السرير. فرفعتُ الفرش العملاق وسندته إلى الحائط. فانكشف لي السپرنگ والسيم. وحين وضعتُ تربتي، تذكرت مشكلة أخرى. فأين القِبلة؟ اتصلت بالاستعلامات، فأرسلوا موظفة خدمة الغرف. دخلتُ معها في حديث عقائدي حول تعيين اتجاه القبلة. وهي لا تدري ما المسألة
where is kiblah ?
what senior ?
where is Mekka ? where is south Italy ? where is Rohh Abooch ?
أجابتني بالإيطالية بعدها. ما اقتنعتُ أنّهُ سُـباب. وتركتني أثرثر مع نفسي. قرّرتُ الصلاة إلى أربع جهات على الچرپاية. لكن المصيبة أن السپرنگ هزاز. ومع كل سجود أتأرجح. فتذكرت حُكم ثبوت موقع السجود من واجبات السجود. وعند تلك السجدة، إنهار الفراش العملاق عليّ وكبسني على السپرنگ حتى طبع على خدودي أثره وخدش أنفي العملاق، الذي بالكاد سحبته من حشرته.
بعد ليلتين أتتْنا المرشدة السياحية. فقد حجزتْ لنا سهرة في إحدى النوادي الليلية. وحين سألتني عن الأثر فوق أنفي، ابتسمتُ لها وسألتها عن عمرها. ذهبتُ برفقة العوائل السعيدة، وأنا حائرٌ بهذا المطب الحرام الذي أوقعتُ نفسي به. سهرة في ملهى! يالعاري وشناري.
على طاولة مستديرة، وسط حشد هائل من الحضور الأرستقراطي، جلستُ مع عائلة سعيدة. لكن هذه العائلة غير ملتزمة، فقد طلبوا الخمر. وقرَّروا أن يحتسوا الشراب. لم يكن المكان مناسباً للوعظ، فلَمْ أحاول معهم. لكنّي تذكرتُ اللّعنات على الخمرة وبائعها وشاريها والجالس على مائدتها.
كانت الموسيقى كلاسيكية، هادئة، والحضور منسجم. وحين أتى النادل بقداح الخمر لطاولتنا، أردت أن أخرج من دائرة الفحشاء كي لا تُخسف بي الأرض معهم. بهدوء، دفعت كرسيّي إلى الخلف، برجلَيّ وظهري، رويداً رويدا. الموسيقى مستمرة، والكل منتعش، وأنا أتراجع من مائدة الشيطان قليلاً قليلا. حتى انحشر الكرسي بشيء ما، فمال إلى ورائه، وملتُ معه. ثم طاح، فطحتُ معه. وأخرج الطَوح دوياً عالياً. فزع الحضور على أثره، وتوقفتْ الأوركسترا عن العزف. كان رأسي قد وصل من أثر السقوط إلى تحت طاولة مجاورة من طاولات العوائل الأرستقراطية الأورپية. وجاءت الضربة على يافوخي، ففرّت الكونتيسة وفرّ الدوق وأنا أصرخ به:
لكْ طنطل تعال شيلني وين مهزوم؟
تجمهر الإفرنج حولي، وحين أردتُ القيام رفضوا ذلك، وقرروا فحصي. لكنّي رفضتُ، فعادوا ورفضت. حتى صرختُ بهم وعادوا الى مقاعدهم مدهوشين. قمتُ من فوري، وأنا أفركُ فروة رأسي من أثر الضربة، واقفاً وسطهم كأني سنجابٌ يرصد صوتاً. الحضور يتهامس، والفرقة الموسيقيّة لا تعرف ما تعمل. الكلّ ينتظر جلوسي. حتى أومأتُ بكفَّيّ الشريفتين لهم بالعودة للعزف. عدتُ للجلوس وابتعدتُ عن الطاولة مقدار ذراع. وهذا كان مبرئاً لذمتي حسب اجتهادي. شرط أن لا أضع كفي على الطاولة على الأحوط وجوباً.
الغرب كان جميلاً، حلواً، نظيفاً، منظماً. وصلنا مدريد بعد عشرة أيام. ومع نفس البرنامج الى ملهى مدريدي. قررتُ عدم دفع الكرسي هذه المرة. وتجاوزت الحكم الشرعي الذي اجتهدت فيه سابقاً لاستحضار حُكم المحصور. لكني قاومتُ كل محاولات شباب العوائل السعيدة في شرب ولو قطرة نبيذ واحدة.
في تلك الأمسية، كانتْ هناك فتاةً سمراء جميلة بالقرب مني، وحين وزَّعتُ ابتساماتي، استجابتْ لها، ولم أدرِ ما الخطوة التالية؟ كنتُ مشغولاً بالفستق والخُضَر التي أمامي وأنا ألتهمها بغباء كأني صخل جبليّ لأسدّ رمقي بدل الأكل الحرام الذي كانوا يطلبوه. والخسّ يتّبع الفكوك حين تقضمه. ويصدر صوتاً غير آدميّ، يقوّي انتماءك الجذري الى الثديات من ذوات الأربع.
قامتْ صاحبة الثوب الأسود وتقدمت نحوي. طلبتني لرقصة (الفالص) في تلك الأجواء الرومانسية. فوقع المحظور، والقلب يرفرف كالطير أو قل كالطيور. أجبتُها بهمهماتٍ كصهيل المهر في أول بلوغه. ودعوتُها للجلوس جنبي: هذا الرقص لا أستسيغه. فأنا من عشاق الفلامينكو .. بكل كبرياء وعنفوان وشموخ.
لكن تبين أن (ماتيلدا) من الأرجنتين. وهي خبيرة في الفلامينكو. أخذتُها في جُمل وعبارات وأحاديث ضيَّعتُ كذبتي عليها. ثم دعتني للخروج: إلى أين يا حمانا؟ إننا للموت عُشّاق الحسين.
قالت: أريد أن ألتقط معك صورة.. فتذكرت الصورة التي التقطها لي زوج خالتي وأنا رافض لأن قميصي الذي كان بنقشة الجريدة لا يعجبني. لكن تعامله الحداثوي معي جعلني أقبل إلتقاط الصورة وأنا أخنق عبراتي، وأكفكف دموعي. فنظرتُ الى قميصي ولم يك ذاك القميص. فقلت لها: ولم لا، إذا كان الأمر لا يتعدى ذلك؟ أعطتْ كاميرتها لأحد المارّة بباب النادي ثم وقفتْ بجنبي. وقفتُ في حالة استعداد، كأني في سرية مغاوير الفرقة 18 مستحرماً لمسها من كفّها إلى خصرها. لكنّها لم تنتظرني إذ مدَّتْ غصن يدها لتمتدَّ حولي (يوم كان لي خصر). وكأنّي (گوز السِّتْ). مالتْ برأسها على كتفي. أول رأس أنثى يميل على كتفي اليتيم. أول حالة تقارب مع الآخر. أول حالة انحراف في قاموس حياتي. وهي على كتفي، تمنّيتُ لو أنّ الحياة توقفتْ. وتنزل عليّ لعنة الرب فتحيلنا إلى حجرين صامتين بدلاً من إيساف ونائلة.
(يتبع..)
Ayoobeat@hotmail.com