في لقاء مع قناة الغد يضع ألكسندر دوغين ثقته بالحل العسكري واستعمال القوة المفرطة، لحل النزاعات الدولية. وربما لهذا السبب يبدو معجبا، إن لم نقل مغرما، بكاريزما ترامب، الذي أطلق حملته الانتخابية تحت شعار “لنجعل أمريكا قوية ثانية”.
ومن المؤكد أن مبدأ القوة بضاعة قديمة، وتدين بشكل أساسي لمجتمع يؤمن بسياسة الإكراه، وكأنها ترجمة لأطروحة سبنسر، التي تعزى بالخطأ لداروين، وهي “البقاء للأصلح”. ومن حينه والديمقراطية الغربية أمام امتحان صعب.
كيف يكون القسر مفيدا؟
حاول هيغل حل المشكلة بثنائية الأمير والعبد (ديالكتيك الأنواع)، ثم اختار نيتشة تعويم الذات فوق المجتمع والإله، وذلك قبل صعود هتلر وحزبه النازي، ومساواته بين الغرائز والمنطق.
لكن ترامب ليس هتلر، واحتجاجه على خسارته أمام بايدن لم يهدد النظام العالمي. حتى أن السجال كان يدور حول شؤون داخلية مثل المناخ ودور المثقف، وأخيرا رفع مؤشر السعادة. وآخر نقطة مبدأ غامض يصعب الاتفاق أي معيار لقياسه، بسبب اختلاف الأمزجة، إن لم يكن الثقافات في بلد واسع ومترامي الأطراف.
ثم حين نتكلم عن الغرب الديمقراطي -على علاته- لا يمكننا الاتكال على دور الأفراد، كما أن المفاجآت ممكنة، وأنت لا تستطيع أن تعرف بالضبط متى يتبدل رأي الناخب الغربي. ويكفي التذكير بانتفاضة الشباب والطلاب عام 1968 والتي وضعت حدا لطموحات ديغول، صديق أندريه مالرو، مؤلف “الأمل” و”أليعازر – مرآة ظلال الشعور” وغيرها. يضاف لذلك طفرات العالم الثالث. فميزان القوة بمعايير الحضارات الجريحة بعيد عن الاستقرار، وارتجالي. وفي ذهني مساومة صدام للأمريكيين، وانقلاب السادات على الروس. ولكن هذه الشطحات – التي تعبر عن تصوف سياسي – بمعنى وطني غامض – لا تنفع في أمريكا ولا أوروبا. ولا أعتقد أنها تكفي لتقويض الاتحاد الأوروبي، كما يتنبأ دوغين، ولا حتى لتراجع الدول الثقيلة أمام أحزاب اليمين الصاعد كما حصل في إيطاليا ميلوني ومجر أوربان. وإذا كان لا بد من إعادة ترتيب للأوراق في أوروبا، يذهب الاحتمال الأقوى إلى ألمانيا، رابع اقتصاد في العالم.
وبلغة الأرقام ارتفع معدل متوسط الدخل فيها لقرابة 60 ألف دولار. مقابل 45 ألفا في إيطاليا و 26 ألفا فقط في المجر. وبالمنطق لدى الألمان طاقة أكبر على الإنفاق – للتطوير والتسليح، ولن يضحي ترامب بهذه الإمكانيات، وبالأخص إذا حسبناها بعقليته التجارية.
ومن البديهي أن إدارة الأزمات ليست حكرا على سياسة الضرب. وسبق لأوباما أن استعمل هذا التعبير لردع سوريا بعد أحداث عام 2013، غير أن الكلام شيء والسياسة شيء آخر. ولا يوجد رئيس دولة يهمه سلوك دولة ضعيفة، والأولوية عند الجميع للمصالح، وهو ما يمكن ضمانه بعدة طرق، منها شراء الذمة بعطايا محدودة، أو بالضغط، وهو سلاح أمريكي بامتياز. ولسوء الحظ أنه حصل على غطاء شرعي من الأمم المتحدة تحت ما يسمى بالعقوبات.
وطالما منعت أمريكا هذا الحق، المشكوك به أصلا، عن روسيا، ولم تسمح به لإيران، وبتعبير آخر احتكرت أمريكا سياسة الضغط.
وحتى عام 2022 عاقبت سبع دول من بينها روسيا، بالإضافة إلى مؤسسة دولية هي محكمة الجنايات، عدا عن عدد لا يقدر من الأفراد، ولمبررات يعجز الذهن عن حصرها.
بينما تكتفي إيران بحرب البيانات والتهديد بمحو تل أبيب. وما حصل هو العكس تماما. فقد أجبرت إسرائيل الإيرانيين، ومعهم الروس، على إخلاء ساحتهم في سوريا، للأتراك. وتوجد الآن إشارة على ولادة هلال سني مكان الهلال الشيعي. وهو ما يقر به دوغين، ويعزوه لاستحالة فتح جبهتين بوقت واحد. والمقصود جبهة البحر الأسود وشواطئ المياه الدافئة. وبهذا الاعتراف يقلل (من حيث لا يدري) من خطورة تهديدات الكرملين بحربها النووية، وقدرتها على تدمير الناتو خلال نصف ساعة.
وبرأيي أن موسكو غير جادة بهذا الكلام.
وحتى إذا فكرت به يمكن لها فعليا تدمير أوروبا مرة واحدة على أن تدمرها أمريكا وحلفاؤها مرتين (فحسب التقديرات تتكفل أمريكا وحدها بتدمير روسيا والصين في ساعتين). وهذه الاستنتاجات تستند على عدد الرؤوس النووية بالإضافة إلى طريقة تخزينها.
ثم إذا لم يصمد الروس أمام تحالف المجاهدين مع الأتراك، كيف يمكنهم الصمود أمام عدة ترسانات موزعة على طول وعرض أوروبا.
ولا يجب أن ننسى مشكلة جدار برلين. كان يبعد عن موسكو أقل من 2000 كيلو متر بقليل، واليوم لا يبعد جدار وارسو عنها أكثر من 1000 كيلو متر (وتدعمه بولونيا بإنفاق دفاعي يستهلك أكبر حصة من الناتج المحلي في أوروبا وأمريكا، والكلام لمارت وولف)*. ولهذه الأرقام معنى واحد، أن العدو الاستراتيجي اقترب نصف المسافة.
ومهما بلغت خطورة الأسلحة النووية يبدو السيناريو أشبه بالخيال العلمي، وهو مثل الحكم على سجين بعقوبة الإعدام ثلاث أو أربع مرات، وكأننا نتكلم عن عقوبة دينية، كما وصفها دانتي في “جحيمه”. ونحن جميعا بغنى عن ذلك، إلا إن كنا نحضر أنفسنا لتقريب نهاية العالم.
*كيف يمكن لأوروبا أن تتقلد عباءة أمريكا؟. مقال لتوماس وولف منشور في جريدة “البيان الاقتصادي”. 14 آذار 2025.