كنت أراجع بتفحص كتاب عبد الفتاح كليطو \”من شرفة ابن رشد\” استعداداً لمحاضرة أعدها. كليطو وكما تعرفون باحث مغربي اشتهر بقراءته الذكية التأويلية للتراث العربي وله عدد من الكتب في هذا المجال.
بالمصادفة كان أحد طلبتي سألني عن كليطو، وعن هذا الكتاب تحديداً، فتحدثت عنه باستفاضة – لم أكن أدري سرها، قبل أن أقرأ الكتاب والمقال المعنون باسمه الكتاب، أعني \”من شرفة ابن رشد\” – وبنشوة وبتصاعد حماسي قليلاً ما أشعر به فيما أخوض به من حوارات. قلت لنفسي بعد ذلك: إن السبب هو حبّي لكليطو ولطريقته في الكتابة.
قلت لطالبي الذي حدثتكم عنه: إن الكتاب يتحدث عن الفجوة بين الفكر والواقع. فابن رشد الذي عني بشرح أرسطو واجه، فيما هو يشرح كتاب الأخير \”فن الشعر\”، مصطلحي التراجيديا والكوميديا. ونحن نعرف جميعاً أن هذه الكلمات لا مقابل لها بالعربية لسبب بسيط هو أن العرب لم يعرفوا تقريباً غير الشعر الغنائي. وفيما واجه ابن رشد صعوبة في العثور على مقابل تطبيقي في الشعر العربي للكلمتين دون جدوى قرر ترك الشرح والترويح عن نفسه قليلاً فاتجه إلى شرفته مطلاً على ساحة، في الخارج كان صبية يؤدون فيها أدواراً مختلفة من بينها أن أحدهم ينتصب كمنارة فيما يرتقيه الثاني مؤذناً ليقوم الثالث بالصلاة.
بالطبع لم يلتفت ابن رشد المشغول بمعادلي الكوميديا والتراجيديا إلى العلاقة بين ما يقوم به الصبية من تمثيل وبين أصل الكلمتين لينزل إلى بلاط الحاكم ويتبادل بعض الأحاديث ثم يعود إلى عمله وقد قرر أن يترجم التراجيديا بالمدح فيما الكوميديا بالهجاء.
من حسن الحظ أن كليطو يناقش بطريقة ما الفجوة بين الواقع والفكر الذي يبدو أقرب إلى الحلم الفردي أو الرؤية الخاصة التي ينهي ناقد أو باحث جل عمره في البرهنة عليها دون أن ينتبه إلى أن أحداً غيره ليس معنياً بتلك البرهنة التي قد تصل حد الشكلية والاستغلاق. فهو يتخيل مترجمه – لأنه يكتب بالفرنسية وتلك مشكلة المغاربة عموماً – معنفاً له بالقول: إنك محكوم عليك بتكرار ذاتك. يا لتعاستك!
سيكون التجدد والتغيّر والتطور ميزة الفكر الذي ينطلق من الواقع ويحل مشكلاته ويناقش عيوبه، بينما يكون التكرار والمبالغة في التوهم والانغلاق ميزة الفكر الذي لا ينتبه إلى الواقع ولا يجد فيه ما يبحث عنه من معادلات ومن إحالات. ألم يشاهد ابن رشد أمام عينيه في الواقع ترجمة ما يريد ترجمته إلا أنه عمي عليه وفضّل في النهاية العودة إلى التراث الشعري ليخطأ خطأ فادحاً لا يصدر عن شارح وعقلاني كبير مثله!
ولكن أين حادثة الشرفة وأين المصطلحان اللذان حدثت محاوري عنهما؟ يا للمفاجأة إنها ليست موجودة!! هل كنت أجيد التحدث عن الكتب التي لم أقرا؟ يتحدث كليطو عن مؤلف اسمه بيير بايار أصدر كتاباً عنوانه \”كيف نتكلم عن كتب لم نقرأها؟\”، ويقول: إنه فن في حد ذاته يقوم على منتهى الحذر والاستخدام الحاذق للالتباس والعموميات والتقدير الملائم للتقريظ والتحفظ، ومع كل ذلك لا بد من قراءة صفحة واحدة من الكتب على الأقل لتلافي أية زلة محتملة.
والسؤال المهم الآخر: هل كان كليطو لا يجيد التحدث عن الكتب التي قرأها جيداً مراراً وتكراراً؟
والحقيقة إنه مأزق كبير بدأ، ربما، مع ابن رشد فهو شارح لا يعرف لغة ما يشرح. إنه لا يعرف غير العربية، فكيف إذن يتوسط بين أرسطو والعرب. بين اليونانية والعربية. هو بطريقة ما يتحدث عما لم يقرأ. واستمر المأزق إلى عصرنا الحالي، مقلوباً بالنسبة للمغاربة عموما ولكليطو خصوصاً. هم هذه المرة يقرأون ويكتبون باللغة الفرنسية، ولكن لنا دون أن يعرفوا لغتنا. إنهم يشرحون لنا ما يريدون شرحه ولكن بلغة أجنبية أو أعجمية كما يقول كليطو. فكيف نفهمهم حتى إن قرأناهم. كليطو كما ابن رشد سيظلان يدوران في رأسيهما. وما علينا، نحن المتابعين للشرّاح الكبار أولئك، إلا أن نتقن فن الحديث عما لم نقرأ لنعيد وصله بحياتنا وبثقافتنا، ولنحظى بمنزلة الشرّاح التي لا بديل عنها في ثقافتنا لمن يريد الكلام أو الكتابة.
هل كنتُ مخطئاً في حديثي عن كتاب لم أقرأه؟ بغض النظر عن الإجابة، التي أرى أنها غير مجدية وغير عملية ولن تغير من الواقع شيئاً، فقد شعرت بأني تلميذ مخلص لآبائي. فكليطو ليس سوى ابن لابن رشد ولست سوى ابن لهذين!