أثارت تحركات زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، منذ سحب نوابه من البرلمان حتى وصوله إلى مرحلة الصدام المسلح والخروج من كل ذلك بلا أي نتيجة تذكر، الحيرة والتساؤلات، وقد عزا متخصصون في الشأن السياسي مغامرته هذه إلى أسباب مختلفة، ففيما اعتبره بعضهم رد فعل على فشل مشروعه بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، أرجعه آخرون إلى استشارات غير صائبة من قبل المستشارين المحيطين به غير مؤهلين، مجمعين على أن قراره الأخير بالانسحاب من المنطقة الخضراء نابع من خلفيته الدينية التي تحرم الدماء.
ويقول المحلل السياسي علي البيدر، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “من الصعوبة التنبؤ والتكهن بخطوات الصدر المقبلة، لكن على ما يبدو أنه يحاول أن يكون دائما تحت الأضواء في هذه الانتقالات المتطرفة من اليمين إلى اليسار وبالعكس، وهذا مؤشر على أنه محاط بشخصيات لا تمتلك الإمكانية والقدرة الكافية لتتواجد في هكذا موقع استشاري، فتلك الشخصيات قد توهم الصدر أحيانا وتجعله يقدم على خطوات كارثية كما حصل أمس من اعتزاله وردة فعله التي كانت بهذه الطريقة”.
ويشير البيدر، إلى أن “الصدر ليس رجلا سياسيا بالمفهوم المطلق، وإنما هو رجل دين، لذا يجب أن يحاط بشخصيات سياسية تعمل وفق طريقة يمكن أن تجنبه المشاكل والأزمات، حيث نجد أن الصدر أكثر شخصية واجهت أزمات منذ 2003 بسبب إحاطته بطبقة من مستشارين قد لا يفهمون شيئا في عملهم، أو أنهم يشيرون عليه وفق توجهات تخدم مصالحهم، وهذا ما جعله يخسر كثيرا وجعله يقع في مطبات سياسية على الرغم من امتلاكه جمهورا كبيرا لم يتم توظيفه على أتم وجه”.
ويضيف أن “الصدر يريد دائما أن يبقي نفسه في دائرة الأضواء، فهو يخرج من احتجاجات ويدخل في أخرى وغير ذلك من التحركات”، لافتا إلى أن “هذه التحركات يمكن أن تجعله في دائرة الاهتمام والتأثير والنفوذ، وخصوصا في نظر من يراقب ما يجري في العراق، وينظر إلى الساحة العراقية نظرة خاصة”.
وكان الصدر ذكر في مؤتمر صحفي قصير عقده في النجف، أمس الثلاثاء، أنه “بغض النظر عن من بدأ الفتنة، فأنا أمشي مطأطئ الرأس، وأعتذر للشعب العراقي المتضرر الوحيد مما يحدث، فالقاتل والمقتول في النار”.
وتابع الصدر “ما زلت أؤمن بأن التيار مطيع، وإذا لم ينسحب من الاعتصام من أمام البرلمان خلال 60 دقيقة، فسأبرأُ من التيار”، منوها إلى أنه “لا توجد تظاهرات سلمية بعد الآن ولا نريدها”.
وجاءت هذه الكلمة، بعد أن شهدت العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، يوما عصيبا، بدءا من ظهر الإثنين واستمر حتى صباح يوم أمس، حيث هاجم أنصار الصدر كافة مؤسسات الدولة واشتبكوا بالسلاح مع الأجهزة الأمنية، ما أدى إلى سقوط نحو 15 قتيلا من صفوف التيار ومئات الجرحى، نتيجة للاشتباكات.
وقد استخدمت في الاشتباكات الصواريخ أيضا، ومنها الكاتيوشا والمحمولة على الكتف، كما فعلت السفارة الأمريكية منظومة السيرام لصدها.
وكان المرجع الديني كاظم الحائري، أعلن الإثنين، اعتزاله عن دوره كمرجع ديني بشكل تام، داعيا إلى طاعة “قائد الثورة الإسلامية” في إيران علي خامنئي، كما أشار في بيانه إلى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عبر قوله “على أبناء الشهيدين الصدرين أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين، أو يتصدى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو -في الحقيقة- ليس صدريا مهما ادعى أو انتسب”.
من جهته، يرى المحلل السياسي غالب الدعمي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الصدر حقق صدمات من خلال أفعاله السابقة، حيث أراد تشكيل حكومة أغلبية، لكن الطرف الآخر منعه وأراد تصفية الفاسدين وتعديل مسار الدولة وأيضا لم يستطع”.
ويبين الدعمي، أن “الصدر أخرج الجماهير للضغط من أجل تشكيل حكومة مستقلة وأيضا لم يستطع، بمعنى أنه أدى رسالته التي يعتقد أنها مناسبة، لكن الآخرين لم يقفوا معه، وهو سيعمل وفق هذه الرؤية، ومع أنه استطاع فضح الطرف الآخر وكشف زيفه، إلا أنه كتجربة وكقيادة حقيقية للأمة لم يستطع ولم يسمح له الآخرون بإدارة الدولة وفق رؤيته هو”، مشيرا إلى أن “قرار سحب أنصاره من المنطقة الخضراء مرتبط بكونه رجل دين ويؤمن بالمرجعية وامتثل لها وانسحب حقنا للدماء”.
وكان صالح محمد العراقي، الشخصية الافتراضية الناطقة باسم الصدر، نقل عن الأخير في بيان نشره السبت الماضي قوله، إن “هناك ما هو أهم من حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، والأهم هو عدم اشتراك جميع الأحزاب والشخصيات التي اشتركت بالعملية السياسية منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 وإلى يومنا هذا، بكل تفاصيلها قيادات ووزراء وموظفين ودرجات خاصة تابعة للأحزاب، بل مطلقا، بما فيهم التيار الصدري، وأقول ذلك وبملء الفم”.
وأضاف العراقي، أن “هذا بدل كل المبادرات التي يسعى لها البعض بما فيهم الأمم المتحدة مشكورة، وأنا على استعداد وخلال مدة أقصاها 72 ساعة لتوقيع اتفاقية تتضمن ذلك ومن الآن، لا أن يقال إن تحقيق ذلك بعد الانتخابات المقبلة، ولا أن يتحقق بطريقة دموية، وإذا لم يتحقق ذلك، فلا مجال للإصلاح، وبالتالي فلا داعي لتدخلي بما يجري مستقبلا لا بتغريدة ولا بأي شيء آخر”.
إلى ذلك، يفيد المحلل السياسي راجي نصير خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “الصدر أعلن منذ البداية أنه يحمل مشروعا لإصلاح العملية السياسية، وكانت أولى خطوة للمشروع الإصلاحي الذي تبناه هي حكومة الأغلبية الوطنية”، مضيفا أن “الظروف التي عاشها البلد والمناكفات ومحركات الإطار التنسيقي والثلث المعطل، جميعها حالت دون تحقيق هذا الهدف الذي أراده الصدر منذ البداية”.
ويتابع نصير “في الفترة الأخيرة عندما أيقن الصدر بأن مشروع حكومة الأغلبية الوطنية قد أجهض، بدأ باتخاذ خطوات تصعيدية من ضمنها دخول أنصاره إلى البرلمان ومحاصرة القضاء وبعد ذلك القصر الجمهوري، لكن يبدو لي أن لجوء بعض أتباع التيار إلى استخدام السلاح ربما مثل تحديا كبيرا دفع الصدر إلى التراجع عن حراكه، حتى أنه دعا إلى رفع الخيام من أمام البرلمان وأنهى الاعتصام السلمي”.
ويوضح أن “الصدر رجل دين، وهو سليل عائلة دينية، وموضوع الدماء والقتال، وخاصة بعد بيان السيد الحائري، يبدو أمرا محرجا له، لأن الحوزة العلمية ورجال الدين تحرجهم قضية الدماء وسقوط أبرياء، ولذلك اتخذ قراره بالانسحاب على الرغم من أنه ثقيل عليه، ولكن كان بالنسبة له أفضل من السماح بانحدار البلد نحو مواجهات قد تمتد نحو جميع المحافظات، مؤدية إلى سقوط مزيد من الضحايا”.
واستيقظت بغداد، صبيحة 23 آب أغسطس الحالي، على تظاهر أنصار التيار الصدري أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى، وظهرا أصدر المجلس بيانا علق في أعماله وكشف أن القضاة تلقوا تهديدات عبر هواتفهم المحمولة، وذلك قبل أن يعلن استئناف عمله في وقت لاحق.
ولم يمض سوى وقت قصير في حينها، حتى أصدر القضاء أكثر من 7 أوامر إلقاء قبض بحق قادة في التيار الصدري، بعضها صدر استنادا للمادة القانونية 198وبدلالة المادة 4/198، وأخرى جاءت وفقا للمادة 226 من قانون العقوبات، حيث تضمنت الحجز على أملاك منقولة وغير منقولة فضلا عن منع السفر.
وفي 30 تموز يوليو الماضي، عطل أنصار التيار الصدري عمل مجلس النواب، عبر الاعتصام داخله بداية الأمر، ومن ثم الانتقال إلى الاعتصام أمام بوابته.
وكان الصدر قد وجه نواب الكتلة الصدرية بالاستقالة من البرلمان في حزيران يونيو الماضي، ومضت استقالتهم رسميا وأدى النواب البدلاء عنهم اليمين الدستورية، وذلك احتجاجا على عدم دعم مشروع “حكومة الأغلبية”، والإصرار على حكومة “توافقية” من قبل الإطار التنسيقي، ما تسبب بانسداد سياسي بدأت ملامحه منذ ظهور نتائج انتخابات تشرين الأول أكتوبر 2021.