يعلم القاصي والداني بأن سورية تعتبر أكبر مسرحا مفتوحا للآثار في العالم، وهي البلد الأكثر حضوراً في ذاكرة التاريخ، وما زالت تحتل مركزاً أصيلاً في ضمير التاريخ وحركة التحضر الإنساني الذي يمثل لاعباً محورياً لا يقبل الثانوية أو الهامشية، ليس في لحظات نهوضها وانتصاراتها فحسب، بل وحتى في أسوأ حالات ضعفها وانكساراتها التي تجلت في تعاقب الهجمات والأطماع الاستعمارية المختلفة عليها. فسورية المتنوعة في جغرافيتها ومناخها وموقعها الإستراتيجي الذي جعلها نقطة إلتقاء عدة حضارات من العالم القديم إضافة لتأثرها بالعديد من الثقافات، تمتلك مخزوناً وتراثاً هائلاً وفريداً من الآثار التي خلفتها تلك الحضارات والثقافات التي تعاقبت عليها، إلا أن هذا التراث الحضاري المميز مهدد وبشدة في ظل الفوضى السياسية والأمنية التي تعيشها سورية منذ بداية الأزمة.
حضرت أمريكا العفريت (داعش) بغية إسقاط الوطن العربي، ولما أحست أنه يقترب منها \”بعد الصفعة السورية\” وجدت نفسها غير قادرة على صرفه، لذلك عملت على تحقيق مصلحتها عن طريق تدمير سورية وسرقة تراثها التاريخي، بهدف محو الهوية للمنطقة العربية وخلق هوية جديدة لمنطقتنا تزيل التاريخ والجغرافيا فنصبح بلا هوية وبلا تاريخ وبلا حتى إنسانية. فالأحداث التي شهدتها سورية أدت إلى تسليط الضوء على المخاطر المتعددة التي تهدد التراث الثقافي والأضرار الجانبية الناجمة عن أعمال القتال، وجشع تجار وجامعي التحف الفنية، وأعمال التخريب التي ترتكبها الفصائل الساعية إلى محو انجازات ثقافات الماضي في سورية.
لقد سجّل السوريون الرقم القياسي بين شعوب العالم في النبش والتخريب وسرقة المواقع الأثرية والمتاحف الوطنية والتهريب للآثار، عمداً أو إهمالاً، فهذه المواقع الأثرية التي صمدت آلاف السنين أمام عدوان الناس والعوامل الطبيعية والحروب، تدمّر اليوم وتشوّه، ويتم ذلك بكثافة عجيبة وسرعة غريبة. فالمتتبع لتراثنا الإنساني والعمراني يجد أن سورية تمر بمرحلة صعبة لربما تكون من أصعب المراحل التاريخية، حيث أن معاول الهدم تنخر بها من كل الاتجاهات، في ظل غياب من يحميها ويدافع عنها.
ي إطار ذلك يمكنني القول إن التراث الأثري في سورية الذي \”يختفي قطعة قطعة\” نتيجة سرقته وتهريبه عبر الحدود، في ظل الفوضى المدمرة، أصبح يتم بطريقة منظّمة وممنهجة، والتهريب يتم عبر لبنان وتركيا والعراق إلى مختلف أنحاء العالم، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حصل في العراق خلال الاحتلال. ومن هذا المنطلق يجب الحفاظ على تراثنا هذا، ليس بسبب جماله النادر وأهميته التاريخية فقط، ولكن أيضاً لضرورته في مساعدتنا على إعادة بناء الهوية السورية، وبالتالي أصبحت آثارنا سلعاً تباع في السوق السوداء بملايين الدولارات.
فى الواقع هناك مجموعات مستفيدة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من سرقة هذا التاريخ. وهذه المجموعات تختلف باختلاف ذهنيتها وهدفها النهائي لهذه العمليات، منها المستفيدة مادياً من هذه السرقات وهي أحط تلك المجموعات لأنها تخون وطنها وتسمح بانتهاك تراثه وكنوزه ومحو تاريخه مقابل أجور مالية، وهؤلاء محصورون داخل الجيش الحر، أما المجموعة الثانية، وهي المستفيدة دينيا، فهي المجموعة السلفية الدينية التي تروج أن هذه الآثار معادية للإسلام والشريعة، فهي عبارة عن أصنام يجب تحطيمها والتخلص منها وهدمها كي لا يعمد الناس إلى عبادتها، وهذا ما حدث سابقاً فى أفغانستان وتونس. وهذه المجموعات الجهادية وجدت في سرقة هذا التراث وبيعه مصدراً لتمويلها من سلاح ورواتب، بالإضافة الى الغرب وإسرائيل الذين يستهدفون الأرشيف العربي المتعلق بالحضارات والتراثات العريقة، ومقومات البقاء والتواصل الحضاري العصري العربي.
واليوم تستمر الأمم المتحدة في تجاهل العدد الضخم من النداءات الإنسانية المطالبة بميثاق يعمل على حماية التراث السوري، كالميثاق الذي عمل على حماية الآثار العراقية في السابق، فما يجري الآن في سورية يضع على المحك ما هو أعظم مما قاموا بالعمل على حمايته في السابق. الآن أصبحت المتاجرة بالآثار والتراث السوري تجارة مربحة للدولة الإسلامية (داعش)، وتأتي بأرباح تتجاوز ملايين الدولارات، وتفسح لـ(داعش) المجال بشراء أسلحة إضافية لترسانتها الحربية. وبالمقابل لا يشاهد السوريون تاريخهم وهو يدمر أمامهم ويباع للغرباء فقط، بل يرون أيضاً، بأم أعينهم، كيف تنقلب أثمان آثارهم ضدهم، وتتحول إلى أسلحة موجهة إلى صدورهم.
ومن المعروف أن الهيئات والمنظمات الدولية لم تستطع أن تمنع أي تدمير للمعالم الأثرية رغم نداءاتها المتكررة لوقف القتال والتخريب للمواقع الأثرية، وهذا ما حصل سابقًا في لبنان إثر الحرب الأهلية في عام 1975م التي استمرت سنوات طويلة، وأدت إلى تدمير معالم أسواقها الأثرية، فيما أدّت إعادة ترميم هذه الآثار – بعد تعافي لبنان من تلك الحرب – إلى كسر خزينة الدولة بدين عام يفوق 50 مليار دولار، ولم تعد تذخر بكل طرزها وزخارفها كما كانت عليه قبل الهدم. ولكن ما يبعث على الاستغراب فعلاً هو أنه في سورية لم نسمع حتى الآن ولو عن تحرك بسيط قامت به جهة أو منظمة ما لحماية آثار البلد التي تنهب في مشهد تجاوز في بشاعته ما حدث في العراق، لأن السارق للآثار العراقية تمت متابعته وأمكن استرداد بعض ما سرقه، ولكن في سورية اكتفت المنظمات الأممية باستعراض عواطفها التي لا تؤخر ولا تقدم في هذا المجال.
فالجميع أصبح يعرف ما يبعث على اليأس بل ما يبعث على الخزي والعار ضد الشعب السوري وحضارته ومعالمه الثقافية التي تنهب وتسرق. لم يظهر أحد من المسؤولين عن الآثار السورية على أضيق وسيلة إعلام لإيجاد الحلول وتوضيح التوجهات من أجل حماية الآثار والحفاظ عليها، خاصة وأن قراءة الأحداث كانت واضحة منذ البداية على مختلف المناطق السورية. وللأسف الشديد لا يبدو المهربون والإرهابيون المتهمون فقط في العملية لأن المسؤولين عن الآثار ومتاحفها ولأن الموظفين المعنيين بالحماية ولأن حرس الحدود ولأن الحكومة كلها كانت مسؤولة عن ضياع آثارنا، وبذلك أصبحت آثارنا في مهب الريح. ومن يعتقد أنها نهبت بشكل عشوائي يكون مخطئاً، فوراء الأمر عمل منظم لإفراغ سورية من كنوزها وإرثها الحضاري العريق.
في إطار ما سبق هناك رسالة ودعوة إلى جميع الشعوب العربية لتكف عن الاقتتال، وعدم تحويل بلادهم إلى مرعى للمنظّمات الإرهابية والمافيا المنظّمة الإسرائيلية التي تسعى لتدمير حضاراتهم وأسباب نشوئهم، لتتفرّد – فيما بعد – ببلادهم وتسيطر عليها بحجة فك الصراع والاقتتال الدائر فيما بينهم، وليحافظوا على مواقعهم الأثرية بعيدة عن مواقع الاقتتال، لأن الهدم أسرع من البناء، وترميم ما يدمرونه اليوم يحتاج إلى عشرات السنين، وسيدفعون ثمنه من عرقهم وتعبهم ودمائهم فقط، فضلاً عن ضياع هويتهم.
في مقابل الحقد والكراهية والدم والفتنة التي زرعها المتآمرون من الغرب والعرب في تربة الوطن السوري، فإنه بفضل إرادة أبناء هذا الوطن سيقتلع زرع التطرف والحقد، ويكسى برياح المصالحة والتسامح والأمل، وسوف يبني السوريون ويورثون لأبنائهم وطنا حقيقيا يليق بهم وبتضحياتهم، وطن يعيد إلى سورية مهد الحضارة ووجهها الحقيقي، ويؤسس السوريون دولتهم الجديدة، دولة المواطنة والقانون والحرية والعدالة والمساواة.
* د. خيام الزعبي: باحث سوري متخصص في العلاقات الدولية، Khaym1979@yahoo.com