أتذكر هذه الأيام \”الخال فانيا\” بطل تشيخوف الاستثنائي. الحقّ أنني أتذكره في الأيام العصيبة كثيرا. لم أكتشف سبب ذلك في البداية، ووجدتني مع الأيام أضع يدي على اللغز؛ يبدو أن عقلي الباطن يستحضر \”فانيا\” كشبيه لجمهرة مواطنينا، فروابط الصلة بينهما كبيرة.. بوجود اختلافات لا أنكرها.
فمن الاختلافات الواضحة أن \”فانيا\” اكتشف ضحالة \”البروفيسور\” زوج أخته بعد نحو 20 عاما قضاها مجنِّدا نفسه في خدمته، تاركا حياته الشخصية على رفوف نسيان بروفيسور تافه، فيما اكتشف غالبية مواطنينا تفاهة كثير ممن يمثلهم من السياسيين بنصف المدة التي احتاجها بطل المسرحية المهمّش.
ومن أبرز الفوارق أن \”فانيا\” ركل سيدَه الذي اتخذه معبودا منذ ريعان شبابه بعدما اكتشفه مباشرة، متهماً إياه بأنه \”أفقده ربيع حياته وهو يخدعه بعلمه المزيف وقيمته التي كان يظنها في السماء وهي في أسفل الأرض\”، وطفق يراجع أولوياته وما ضاع من عمره وما بقي، وإن كان شعر باليأس وإن جاء الاكتشاف بعد فوات الأوان، فيما لم يركل معظم مواطنينا بعد عددا من السياسيين عدّوهم منقذين في يوم ما، واكتشفوا مثالبهم متأخرين، وربما يحتاجون وقتا أطول للتخلص من بقية خوف للتحرر منهم نهائيا، ومن هذه الزاوية يبدو \”فانيا\” متقدما عليهم بسرعة صحوته برغم تأخر اكتشافه.
هذان أبرز مظاهر الاختلاف، أما عناصر التشابه فهي الأشدّ وضوحا في الحالين، فمواطنونا مثل \”فانيا\” فقدوا سنين مهمة من أعمار لا تعوض، بعدما فقدوا مع أسلاف هؤلاء السياسيين الفاشلين قبل 2003 زهرة أعمارهم، ودفع الطرفان خسائر جسيمة ثمنا لثقة في غير محلها. ومثلما شعر \”فانيا\” باليأس المطلق وخواء الحياة بعد انهيار المُثُل، دفع مواطنونا في عقدين أو ثلاثة فاتورة باهظة إنسانيا، ندر أن دفعتها شعوب أخرى في قرن من الزمان..
يصف \”فانيا\” حياته بعد اكتشاف خواء \”البروفيسور\” بأنها \”جافة مرة، لا تحفظ له ذكرى جميلة من الماضي ولا تبشره بأمل زاهر في المستقبل\”، ويبدو بذلك وكأنه يتحدث باسم جوقة يائسين من مواطنينا.
قد لا يكون من الغريب أن صورة \”فانيا\” اقترنت في ذهني بشخصية فنان عراقي أبدع يوما في تمثليها عام 1993، فسامي عبد الحميد الذي أحب أعمال تشيخوف، كان نموذجا جذابا لأداء هذه الشخصية المركبة، وهي تبدو غير بعيدة عن شخصية العربنجي (أبو عطية) التي أداها الفنان نفسه في المسلسل الكلاسيكي (الذئب وعيون المدينة) والتي كان يستغلها سيد كـ\”عبد القادر بيك\” (النظام القديم)، لتجد نفسها بعد تمردها عليه، في عبودية مماثلة لغريمه \”إسماعيل جلبي\” (النظام الجديد بعَمْرة الرأس المميزة) الذي وسّع دائرة الاستغلال لتشمل (أم عطية).. حتى نفض الرجلُ يده من الغريمين معا بعدما اكتشف أنهما وجهان لعملة واحدة، في مشهد مؤثر يحتاج مواطنونا لتكراره اليوم.
ليس كيوم 31 آب الحالي، من فرصة ذهبية أمام مواطنينا ليسجلوا نقطة في سباقهم مع بطل تشيخوف. إنه يوم الحراك الجماهيري لإيقاف النهب العام لثروتهم على يد غير قليل من اللصوص في ثياب سياسيين، ويفترض بمواطنينا أن لا يتأخروا كثيرا على \”فانيا\” القادم من القرن قبل الماضي، فحساب الزمن هنا لا يصب بمصلحتهم بعد أن تأخروا كثيرا في الاكتشاف، وتأخروا أكثر في البحث عن حلول تعيد لهم اعتبارهم إنسانيا بعدما أفقدهم الفرقاء الطائفيون أي أمل في غدٍ بلا دماء.
هل يحتاج مواطنونا ليسمعوا من يقول لهم ما قالته الفتاة \”سونيا\” لخالها \”فانيا\” في ختام مسرحية تشيخوف \”إنك لم تذق لذةً في حياتك، ولكن صبرا يا خال فانيا صبرا! فسوف نستريح.. سوف نستريح\”..
* باحث وصحفي