موت مواطن… ثنائية الزَّمن مابين المُتلقّى والعَرض

تمثيل : سامي عبد الحميد، اقبال نعيم ،فلاح ابراهيم 

تأليف واخراج: هيثم عبد الرزاق 

تقديم: فرقة المسرح الوطني

انتاج: دائرة السينما والمسرح العراقية 

تاريخ العرض: 13 / 10 / 2013 

مكان العرض: مسرح مديرية الفنون المسرحية / اربيل  

في بلد بات الموت فيه أمراً طبيعيا ولا يثير الدهشة ولا الحزن ولا الرثاء لكثرة ما يسقط من ضحايا على ايدي منظمات شبحيّة تمتهن الارهاب والقتل المجاني على طول البلاد وعرضها، ساحقة بذلك اناساً ابرياء لاصلة لهم بالسياسة، يأتي هذا العرض ليقدم لنا جانبا من مرارة هذه الحكاية، عرضٌ ارتقى في منظومة أنساقه السمعية والبصرية على الضعف القائم في بنية متنه النصّي، ومشيراً بوضوح في مستويات خطابه الجمالي الى واقع غامض ما عاد ممكنا على الانسان أن يحقق تفاعلاً وانسجاماً معه بعد انحسار مساحة الحياة الانسانية فيه أمام سلطة عمياء ــ بَصراً وبَصيرةــ لجماعات واحزاب دينية متطرفة باتت تمارس دورا قامعا للمجتمع، وتمكنت في العديد من مناطق نفوذ الدولة من زحزحة سلطتها وفرضت مكانها قوانينها.مما أفرز هواجس جمعية وفردية متطرفة تتحرك في منظومة من مشاعر الخوف والكُره والشك والاحتقار للآخر، فضعفت أمامها الفطرة الانسانية بما تحمله من مشاعر الرحمة والتضامن ما بين الجماعات المختلفة فيما بينها، عرقيا وطائفيا وأثنيا، فأنتج هذا الوضع المُلتبس ثقافة مغتربةً عن الفرد والمجتمع. فتشظت الهوية الوطنية بمفاهيمها العامة ــ الاجتماعية والانسانية ــ لتحل بدلا عنها هويات متعددة. هذا ما كشف عنه خطاب العرض المسرحي موت مواطن.

المرأة في هذا العرض كانت محور الحكاية ــ جسدت شخصيتها الفنانة القديرة اقبال نعيم ــ وكانت هي ايضا فاقدة للبصر لكن بصيرتها كانت معافاة من العمى، على العكس مما هو عليه حال الفكر المتطرف السائد في المجتمع الذي تنتمي له وتعيش بظله، والذي بسببه اضطرت لاختيار العزلة مع والدها ــ جسد شخصيته الفنان سامي عبد الحميد ــ وقد اختار المخرج أن يضعه في مكان مرتفع داخل الصالة التي يجلس فيها الجمهور واحاطه بأكداس من الكتب، وكأنه بهذه العلامات أراد أن يحتفي بذاكرة حضارية لم تزل خصبة وحيّة وشامخة رغم الدمار الذي يحيط بها ويتهددها ويتسلل اليها متذرعا بصلة الدم والقربى ــ جسد شخصيته الممثل فلاح ابراهيم ــ ولم تمنعه صلة القربى هذه من البحث عن ايّة ذريعة لقتل وتدمير ما تبقى من القيم والعلاقات الانسانية.

جدير بالاشارة أن النص الادبي للعرض هو الأول في مسيرة الفنان هيثم عبد الرزاق في عالم التأليف للمسرح، ولهذا لم يكن من الصعب اكتشاف مواطن الضعف فيه. بنفس الوقت لعبت خبرته الطويلة في عالم المسرح ــ ممثلا ومخرجا ــ دورا كبيراً في انجاز كتابة النص خلال مدة قياسية لاتتجاوز 14 يوما، حسب ما أكدّه لي في حوار قصير دار بيني وبينه. والخبرة المتراكمة تجلت بوضوح في مكان آخر، بعدد من العناصر الفنية التي تمكن هيثم من الامساك بها وهو يقتحم عالم الكتابة، فطبيعة الحوار اتسمت بالايجاز والكثافة، وهذا ما لا يتوفر لدى شخص آخر يغامر بالكتابة للمسرح لأوّل مرة، إذ سيبدو نصه على الارجح محشواً بالكثير من الجمل الفائضة. 

أمّا لغة الحوار التي اعتمد فيها على اللهجة البغدادية فقد اتسمت ببساطة مفرداتها، سعيا منه لأن يكون متطابقا مع اسلوب مسرح الواقعة في بعض خصائصه التي تؤكد على ايقاظ حافز التحريض والتأمل لدى  المتلقي،فالقى هذا الاسلوب بظلاله على سياق الرؤية الفنية التي تحرك بموجبها المخرج/المؤلف،وهو يعريّ الواقع،مع مراهنة اسلوبية استعارها من تقنية المونتاج السينمائي تستند على تقطيع مسار الحكاية إلى مشاهد منفصلة ومرتبطة مع بعضها البعض في آن واحد بشكل سلس ومخادع.

إنّ الانفتاح على آليات فنية متنوعة في التناول،لم يغب عن مخيلةِ مخرجٍ له خبرته الطويلة والاكاديمية في تحريك أوصال اللعبة المسرحية المُقطّعة مشهدياً،من غير أن يشعر المتلقي بحالات القطع الحادِثة بين المَشَاهِدِ،وقد افرَغَ محتوى هذا النهج الاسلوبي في معادلٍ موضوعي/صوري،طرَح من خلاله رؤيته الفنية،وذلك من خلال لجوءه إلى استثمار خشبة المسرح والصالة معاً،بأعتبارهما حيزاً وفضاءً دراميا واحدا ً تحرَّك فيه ومن خلاله لتحقيق مناخ ٍ حميمي مع المتلقي،خاصة وأنَّ خطاب العرض قد احتشدت فيه تفاصيل يومية حاول من خلالها ان يتكاشف ويتواجه مع المتلقي/المواطن.

يبدو لنا أن المتلقي/المواطن قد مثَّل وجوده وحضوره ــ اثناء العرض ــ  علامة دالةً على زمنٍ مزدوجٍ، في ثنائية متأرجحة،مابين الواقع والمُتخيَّل . فالخيط رفيع جدا بينهما،وليس من السهل رؤيته في هذا الجزء من اللعبة ــ التي انساق بها وساقنا  اليها صانع العرض ــ وبذلك تمكن من تفجير سحابة من الاحساسيس إختصر بها أسئلة باتت مُلحّة على الفرد العراقي خلال الاعوام العشرة الاخيرة،منذ العام 2003،بما شهدته من قتلٍ على الهوية بعلاماتها الدينية والطائفية،ومانفكّت هذه الأسئلة تداهمه في نومه وصحوه،ووضَعتْ على مصطبة التشريح،هويته وماضيه وديانته وتاريخه. 

لم ينشغل هيثم في البحث عن مفردات غريبة ومبهرة ليوثث بها سينوغرافيا العرض،بل اكتفى بعناصر محدودة جدا تمتلك حضوراً واقعياً وانسانياً في حياة الشخصيات(غسالة ملابس كهربائية،سطل ماء بلاستيك، كرسي،ماسحة تنظيف،مجموعة من الكتب)ولم يحمِّل هذه الدلالات في حدود المساحة الضيقة التي لعب بها داخل العرض اكثر مما تحمله من مدلولات في الحياة الواقعية،مقابل مساحة اكثر سعة تركها للحضور الانساني،مُجسَّدا بالشخصيات الثلاثة التي تقاسمت بنية العمل .

الحديث عن اداء الممثلين الثلاثة ــ سامي عبد الحميد،اقبال نعيم،فلاح ابراهيم ــ يكتسب خصوصيته من خلال ارتكاز العمل على بنية معمارية قائمة على استثمارعنصرالحوارفي تحريك الحبكة الدرامية لحدث واحد يشكل بؤرة النص/العرض،وهذا ماوضع الممثلين أمام خيار صعب جعلهم يتكئون على طاقتهم الصوتية بشكل اساسي في التعبير عن مكنونات الخطاب الفني مع تراجع ملحوظ في استثمار خامة الجسد بكل ماتحمله من علامات،وكان للخبرة الكبيرة التي يتقاسمها الممثلون الثلاثة،وفي المقدمة منهم الممثل سامي عبد الحميد ــ بما يمتلكه من استرخاء وخامة صوتية مميزة ــ دور مهم في تحقيق مناخ مؤثر داخل صالة العرض،مَكَّنت المخرج من لملمة مواطن الضعف التي كشف عنها جسد النص.والتي كان من الممكن معالجتها فيما لو تمت الاستعانة بخبرة كاتب درامي محترف أو دراماتورج. 

إقرأ أيضا