وصلت جثته الى طاولة المشرحة برأسٍ مقطوع، انه أحد ضحايا مسلحي تنظيم داعش، الذين ضبطوه وهو يبيع السكائر، وهي جريمة يعاقب عليها “قانون داعش” بالجلد، لكن الضحية صرخ لاعناً الدين، من شدة الضرب، فقطعوا رأسه.
سامح العزاوي المعاون الطبي البالغ من العمر 35 عاما كان يفحص الجثة ويبكي بصمت لاستقباله شباب الموصل القتلى بدون ذنب. وبينما أسر القتلى كانت تنتظر خارجا. انتهك العزاوي القواعد حين أخرج خيطاً وراح يخيط الرأس بالجثة في غضون اربع دقائق.
المشرحة في مدينة الموصل، هي المكان الأكثر فضاعة، والشاهدة الوحيدة على الآلة الجزارة التي أنشأتها الجماعة الارهابية عبر الاراضي التي سيطرت عليها في العراق وسوريا. في كل يوم، يعيش الاطباء والموظفون يوماً اسوأ من الذي سبقه، نظراً لما الحقه المسلحون بالمدنيين من هتكٍ لكرامة الانسان.
مضر عمر، كبير الاطباء الفاحصين في المشرحة، يقول إن “مهنتنا انسانية، لكن المسلحين كانوا يفعلون العكس تماماً”. وكان الموظفون يستقبلون احياناً ما بين 60 الى 100 جثة يومياً، فالشاحنات المحملة بالجثث التي كانت تصل المشرحة، تتساقط منها الرؤوس والأيدي والسيقان فوق الأرض.
الجثث التي يتم استقبالها، هي لمدنيين، أو لمسلحي داعش الذين يقتلون في قصف التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.
الجمجمة المكسورة، دليل على نزيف داخلي ويعني ان صاحب الجمجمة القي به من السطح العالي عقاباً على شيء ما، وربما لانه مثلي الجنس، بحسب ادعاءات المسلحين الارهابيين. جمجمة اخرى لامرأة، مكسورة ومحطمة، فمن المرجح انها تعرضت لرجم حتى الموت بحسب اعتقاد المسلحين الارهابيين، ولربما اتهمت بالزنا.
تنظيم داعش كان حريصاً على الاحتفاظ بسجلات الحكومة، فكانوا يفحصون شهادات الوفاة وتوثيق فضاعاتهم، ويضعون حرف (أ) على جثة ما، يعني انها عائدة للتنظيم، فيما كانوا يضعون حرف (م) على جثة الشخص الذي تم اعدامه.
وتظهر صفحات برنامج من “أكسيل”، أن أكثر من 1200 شخص أصيبوا بالرصاص في الرأس، وهو مؤشر محتمل على عمليات إعدام داعش للمدنيين في بيان حزيران من العام 2014 حين استولى على الموصل حتى كانون الثاني من العام 2017.
وتضم القائمة ايضاً، 12 امرأة تم قطع رؤوسهن و50 رجلاً وفتى توفوا نتيجة إسقاطهم من أعالي البنايات.
عمل الموظفون تحت رقابة شديدة من قبل مسؤولي تنظيم داعش وهددوهم بالعقاب في حال قاموا بخروقات للقواعد المفروضة. ومن بين هذه القواعد لا يمكن اعادة الجثث التي اعدمت بموجب القانون الديني، إلا في الحالات التي يسمح بها قادة التنظيم.
وبدلاً من ذلك، تم إلقاء كثيرين في مقابر جماعية، وذهب آلاف اخرون مباشرةً الى المقابر الجماعية دون ايصالهم الى المشرحة. وقد جلب مسلحو داعش ما لا يقل عن 1000 جثة الى المشرحة التي لم يتسن للموظفين التعرف عليها، لذلك يقولون انهم لم يسجلوا تلك الجثث في سجلاتهم.
العزاوي تمكن من خياطة الرؤوس المقطوعة بنحو 10 جثث في اليوم الواحد، وكان يفعل ذلك في منتصف الليل، بينما كان مسلحو التنظيم يفضلون البقاء خارجاً لان رائحة المشرحة لا تطاق.
وبينما كان العزاوي يزاول عمله في اعادة الرأس الى الجسد عبر خياطته، صاح احد المسلحين الذي شاهده خلسةً “نحن نقطع الرأس وانت تعيده؟، في حال كررتها مجدداً ستكون انت مقطوع الرأس”.
“إنه على قيد الحياة!”
ذات صباح، وصلت شاحنة نوع “بيك آب” تحمل ما يقرب من 12 جثة، ألقتها على رصيف المشرحة، وصاح مسلح بأحد الموظفين “استيقظ!”، وهو نداء للبدء بمهمة يومية للموظفين لفرز الموتى.
وبينما ذهب المسلحون، كان الموظفون يبحثون بين الجثث، واذا بهم شاهدوا شابا يتنفس، فقالوا انه لايزال على قيد الحياة، ولكن لم يكن هناك الوقت الكافي لانقاذه، فجاء المسلحون ورشقوا الجثث مرةً اخرى بالرصاص”.
الموظفون كانوا يقولون “هناك الكثير من الضغط والضغط والضغط، وفكنا نتمنى ان يأتي اليوم لتُقطع به رؤوسنا”.
في العام 2005 كان جاسم سعيداً بحصوله على منصب في دائرة الطب العدلي، فهذا المنصب سيكسبه أجرا أعلى بأضعاف ما كان يكسبه في مستشفى حكومي. جاسم خريج معهد طبي، حصل على شهادة الدبلوم وهي دراسة لمدة سنتين بعد الثانوية، ذهب الى العمل كممرض في الجيش. وفي المشرحة اجرى فحوصاً لاجهزة طبية تحت اشراف اطباء امثال عمر.
وفي مساءٍ ما، قاد مسلحون رجلين واقتادوهما الى فناء المشرحة، ووضعوهما بمواجهة الموظفين الذين اصيبوا بالرعب، وقالوا كلمة واحدة للرجلين “نطلق عليكما النار او نقطع رأسيكما؟”. فهذه رسالة كانت لكل من يخون “الخلافة”، هكذا كان يصيح احد المسلحين. فهؤلاء المسلحون يعرفون انهم قد يتعرضون الى الانقلاب او التجسس لصالح القوات الأمنية.
وتقع المشرحة في مجمع الشفاء الطبي، وهو مجمع كبير في النصف الغربي من الموصل، يشمل المستشفى الرئيسي في المدينة. كان هذا المجمع، المركز الرئيسي للمسلحين الذين يتم جلب المصابين اليه من العراق وسوريا. ويقع مكتب (ما يسمى) وزير صحة تنظيم داعش في هذا المجمع، وهذا يعني ان الموظفين تحت أعين المسلحين في كل وقت.
الموظف جاسم، عانى كثيراً خلال حكم تنظيم داعش، لاسيما انه المدخّن الذي يعدّ تدخينه جريمة يُعاب عليها، وفعلاً تمت معاقبته حين جُلد بأكثر من 30 جلدة.
ومن وقت لآخر، يتعرض جاسم للضرب المبرح بعقب البندقية داخل غرفة وزير صحة تنظيم داعش، وذات مرة رفض تصديق شهادة وفاة احد مسلحي التنظيم، فأخذوه بعيدا، وكان ابناه الشابان خارج المكتب يسمعان صراخ والدهما.
وفي حالات قليلة، كان هو وغيره من الموظفين يهربون الجثث لاسرهم وذويهم قبل ان يختفوا في المقابر الجماعة، وكانت عمليات التهريب تجري ليلاً بعد التأكد من قطع التيار الكهربائي وإغلاق الكاميرات الليلية. وفي احدى المرّات قام جاسم بتفتيش جثة امرأة قتلت بتهمة تقديمها معلومات للجيش العراقي.
وفي شباط من العام 2016، نشرت على صفحتها في الفيسبوك منشوراً قالت فيه “الثلوج تتساقط في الموصل!”. وهذا ما اعتبره تنظيم داعش رسالةً موجهة لجهة ما، فجاء المسلحون بالمرأة امام قاضي التنظيم الذي بدوره سمح لزوجها واطفالها بلقائها لمدة ساعة، قبل الحكم عليها بالقتل في ساحة عامة.
وهنا بدأت معاناة زوج المرأة الخائنة بنظر التنظيم الارهابي، فكيف يسحب جثتها ويدفنها إثر قرار التنظيم الارهابي بعدم رفعها. اتفق زوج المرأة مع جاسم بسحبها ليلاً وايداعها في المشرحة، بعد ان اطفأ الزوج مصابيح السيارة لسحبها ونقلها الى المشرحة التي كان ينتظر في بابها الخلفي جاسم لاستقبالها، مستغلاً انشغال المسلحين ليلاً.
المصدر: اسوشيتد برس