1
العاملون في حقل الثقافة والفن ينظرون إلى موضوعة البطولات والمسابقات الرياضية من حيث إنها لا تمثل مدى الشهرة للرياضي فقط أو ارتفاع أسعار المبيعات لتذاكر الدخول إلى الملاعب ولا حتى اتساع رقعة المشاركة الممتدة على مساحة هذا العالم، ولا من باب الترويج للسياحة أو الاستغلال السياسي والمنفعة الاقتصادية لكنهم في ذات الوقت ينظرون إلى مفهوم تطور اللعبة فنيا، أي لعبة، والمرتبطة بمدى بهرجة الإخراج والتبويب والصور والألوان، أو بمدى الجمال الخرافي المقدم في هذا المضمار أو ذاك وقبل ذلك الاستئثار بأسماء رياضية لامعة مبدعة تنخرط دوماً في حمى التنافس الرياضي الصرف التي هي حمى العالم الفني الجمالي الذي يحكم المتابع المتفاعل مع هكذا كرنفالات، وهذا لا يعني أن المشتغل في حقل الصحافة والثقافة والكتابة من النسّاك الزاهدين، لا يسعى إلى المشاركة على الأقل من الناحية المهنية الصحفية كتابة وتعليق، فالالعاب الرياضية بمجملها ليست حكراً على فئة دون أخرى، ولكن المسألة، ببساطة كما تبدو لي، أن الحريصين على كتابة الشعر، حصراً، يُخضعون قصائدهم وأفكارهم الشعرية ويقولبونها ضمن هذه الأطر الفنية للمفهوم الجمالي لعالم الرياضة وفنونها، بل هم يجهدون لتوظيف مختلف الابتكارات الجمالية الرشيقة في خدمة توجهاتهم الشعرية، وهكذا ستحافظ القصيدة على وجودها وباصرار كبير، فاذا هي الآن منتشرة في العالم ومخترقة لأدق تفاصيل حياة الفرد كما أنها في حركة جمالية دائمة ومتجددة، تجهد أن تكون متصاعدة، أيضاً، مع تصاعد وتزايد الضرورات المعرفية المبتكرة التي تفرضها حقائق عصرنا وحاجات الشعوب، وطالما إنها مستمرة، وبقوة، فهذا يعني أنها لا تزال ضرورية كالرياضة والموسيقى وسائر الفنون الأخرى .
2
إلى أي حد تستطيع، مثلاً، مباراة ما بين البرازيل وايطاليا من إبراز مظاهر الثقافة الشعبية العالمية المتأصلة في لغة الحوار اليومي من ناحيتي التأثر والتأثير؟ فقد يكون بمقدور هذا الموروث الإنساني الغارق في الشمولية الكونية أن يتعامل ويتعايش مع الواقع اليومي بصورة سلمية مسالمة يمكن مقاربتها ما بين العلاقة الحميمية التي تربط جميع الأشكال التعبيرية الأخرى بعضها ببعض لتستثمر في ذات الوقت قابلية التواصل القائمة على التفاهم المتبادل في إطار الجماعات البشرية وهي بالتالي تسعى لتجسيد الشكل الحضاري المتمدن في هذا العالم، من هنا تندرج مباراة كروية ما ضمن الإطار الشعري في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، من خلال المعايشة اليومية للنشوة والفرح والجمال وحتى الحزن، وكذلك في مختلف المظاهر المحلية للشعوب المتمثلة باللغة والثقافة ناهيك عن سلوكيات الأفراد العفوية وتلك المبتكرة المتعلقة بتعبيرية صافية تتصف بمدى ارتباط الإنسان بإنسانيته وبصدقية التعبير عن مشاعره، بغزارة الانماط التعبيرية وتنوع دلالاتها التي ترتدي الشعر، مجازاً، ثوباً لها، كما أرى، وبكلمة موجزة، يمكن أن أسمي هذه المباريات الكروية أو أستطيع أن اطلق عليها بالمونديال الشعري لتبيان الجوانب الإنسانية المشتركة التي يتناولها اللاعب (الشاعر) أو المشاهد (القارئ) على حد سواء ومدى استجابة كلا منهما لحركة الحياة والضرورات الجمالية، لقد دأبت كلمة (الشعري) على الإتصال بكل الأشياء والكلمات والمعاني وهذا الإتصال المعرفي الدؤوب جعل منها وحدة لفظية متكاملة ومتراصة تنفذ موجة من الاختلاجات الروحية المصاحبة للإنسان في كل المراحل، وهذا التوالد الروحي القائم على استتمام اللفظ للكلمة أو الجملة التي هي عضو دائم فيها يتم بسرعة لا تدانيها سرعة تولد الألفاظ والدلالات والعبارات والصور الشعرية بالمشاهد والمحسوسات التي تحيط به وبنا .
ثمة لوحات شعرية قائمة بذاتها وقصائد غارقة بجمالها الباذخ وكلمات أو إشارات بليغة المضمون كثيفة المعنى مسبوكة الكناية إضافة لكونها سريعة الإيصال بعد أن توجز مهمتها الجمالية والفنية، هذا الإبداع الذي تقوم به هذه المكونات البشرية يؤكد لنا اختصار كل التجارب الإنسانية التي تصوغها الشعوب بغض النظر عن اللغة، لون البشرة، طريقة التعبير، أشكال التحية، الأناشيد الوطنية للبلدان أو الازياء الرسمية والتراث الشعبي، التلوينات الغرائبية وأسلوب التخاطب الإنساني السلمي بوصفه مدرسة حضارية يستسيغ المشاهد ثمارها الحية أنى ومتى يشاء أو حينما يعنيهم أو يعنيه التخاطب فيعوضون من خلاله ثغرات السياسية أو خراب السياسي .
3
ما من شك في أن لكل أمة ولكل فرد مقاييس سلبية وإيجابية فهي بحاجة إلى المحافظة على القديم المتجدد وهو بحاجة إلى اثبات هويته، ولكن تبدو عظمة الجماعات ويظهر نبوغ الأفراد في ازدياد عدد المقاييس الايجابية التي تصلح كأساس في بناء أواصر المحبة والتواصل العفوي وهكذا نرى الشعر مثلما نرى الرياضة، هذه هي الروح التجديدية للأمم التي ترغب في الحياة وتصلح أن تكون دليلاً على ظاهرة روحية وجدانية وليست انسحاباً وانكفاء على الحياة كما يتصور البعض من الساسة الذين أغلقوا منافذ الضوء على أنفسهم وعلينا، سوف يقدم هذا المونديال أو تلك البطولة الأممية أو هذه المباراة الكروية نموذجاً راقياً لأدب الحوار والتفاهم بين الشعوب وأظهر بما لا يدع مجالاً للشك تمكنه على اثبات مقولة (العالم قرية صغيرة)، من هنا نحن نحتاج إلى الاحتذاء بمثل هذا الأسلوب الحضاري في التحاور والحوار أو التواصل والاتصال، أعتقد جازماً أن الجمهور الحاضر في هذه البطولة وغيرها يستحق لابتكاراته الفنية، لحرارة المؤازرة، للتفاعل التلقائي وأسلوب التعبير على جائزة نوبل للتضامن الروحي والجمالي والإنساني وبذلك قد نزداد يقيناً بمصداقية هذه الجائزة وأهميتها المعنوية الخالية من كل فعل سياسي يحاول أن يجعل من الأدب أو الرياضة أو العلم مداراً مؤاتياً له لا للقيم التنويرية والفنية والجمالية التي تمارسها الشعوب بمنتهى العفوية .
4
تترك الصداقات عادة هامشاً كبيراً للممارسات الروحية وسواء أكانت تلك الصداقة تقّر بوجود المواصلة أم لا، فإنها ستصيب قدراً كبيراً من المحبة والوئام في حال أبقت على ذلك الهامش لتلك الممارسات، ولقد دفعني لهذا القول ما كتبه ذات مرة الصديق الغائب الشاعر كمال سبتي بحق صديقه الذي سبقه بالرحيل عن هذا العالم اللاعب الدولي العراقي الكابتن عبد كاظم، إن مقالة الصديق كمال سبتي بالنسبة لعلاقة الصداقة التي تربطه بالغائب عبد كاظم لا تكمن في التأثير المباشر على كنه الصداقة وحسب، بقدر ما تأتي فعلاً روحياً، أو تعبئة وجدانية في التعبير الذي مارسه الإنسان الشاعر مع الإنسان الرياضي في اتجاه التصدي لمن يحاولون تشويه الحياة بفعل ممارساتهم السياسية القامعة، ولكي يضمن كل منهما وجوده الروحي ليؤازرا في نفس الوقت تواصلهما الضروري ما بين جمال الحياة وقدسية الصداقة النابعة من منطلق أن لدى كل منهما شيئاً مخفياً يسير باتجاه الحياة والجمال دوماً، هذه هي المشتركات الإنسانية أو الروحية والوجدانية المتحضرة ما بين الرياضي والشعري .
كلمة أخيرة: لابدّ لنا من تتبع مسار الحياة بتأنٍّ وهدوء ورحابة، لنحدّد مكاننا في شبكة العلاقات الإنسانية وبحركية العالم وعلاقاته وتحولاته، فهذه الحياة معْلَمٌ أساسي لا يصحّ المرور بها في خفة واستخفاف، ألا يحق لنا أن نرى ونعيش هذا المناخ الروحي؟ ربما نعم وربما يحق لنا أن نتأمل فقط، فقد طوعنا ذخرنا التعبيري الموروث والمكتسب، رغم الخراب، لنؤلف صيغة جديدة تظل تنشر مفاتن تلك الحالة الشعرية النادرة التي حرصنا على جمالها وأقمنا فيها حتى صار لنا بها أمل راقص ندحوه كل يوم ليظل أمامنا دائماً .