رواية \”الأرض الضائعة\” (2012) هي الرواية الأولى للكاتب مراد أيزيك, وقد حققت نجاحاً جيداً, وشجعت دار النشر \”آنتوس\” على توقيع عقد روايتين جديدتين. مراد أيزيك ولد في أزمير في عام 1977, هاجرت عائلته الى هولندا في 1983, حيث درس مراد الحقوق، ليقول في هذا الصدد \”درست الحقوق تلبية لرغبة والديّ, ولكن حلمي ظل دائماً كتابة القصص. الكتابة بالنسبة لوالديّ مخاطرة\”.
التحق بدورات الكتابة الإبداعية والكتابة الصحفية, ثم بدأ بكتابة القصص القصيرة وفازت إحدى قصصه بجائزة محلية, شجعه ذلك على الاستمرار في الكتابة الى جانب عمله في القضاء.
في طريق عودته من سان فرانسيسكو الى أمستردام, بدأ بكتابة المسودة الأولى للرواية, كان ذلك في سبتمبر عام 2008. ساعده في كتابة الرواية والداه, كانا يحكيان له قصصا عن عائلته, وما سمعوه من أهلهم. \”الرواية ليست سياسية, إنها قصة, تاريخ عائلي, قصة أب وابن\”. كما يقول أيزيك عن روايته.
أرسل فصول الرواية الى ثلاث دور نشر, وافقت جميعها على نشر الرواية, واختار أيزيك واحدة منها, \”آنتوس\”.
**************
\”محمد, كل شيء سيكون على ما يرام\”. يقول أبي هذا دائماً, ولكن, كل شيء لم يكن على ما يرام\”.
تروي القصة تاريخ جيلين من عائلة أوسلو, وتجري أحداث الرواية بين عامي 1953 و1966. الراوي والبطل هو الطفل \”ميران\” أو محمد الذي ولد في عام 1953 في قرية صوبيان, لأب (سليم) وأم (أسما) علويين يتحدثان وأهل القرية اللغة الزازاكية ولا يتحدثون أهل القرية إلا بهذه اللغة، والقليل منهم يتحدث اللغة الكردية, كان هو الطفل الثالث للعائلة, يوسف وزيلدا قبله ــ كان عمر ميران سنتين ونصف عندما توفيت أخته زيلدا ــ وقبل ميران ولدين توأم (سلمان وموسى) توفيا عند ولادتهما, وبعده كانت أخته \”أليدا\”. ظل مع اسم ميران حتى سن العاشرة, عندما غيّر اسمه المعلم \”زنكني\” الذي أرسلته الدولة الى القرية لتعليم أبناؤها اللغة التركية.
\”الأولاد الذين يدخلون المدرسة يجب أن تكون أسماؤهم تركية\”. قال زنكني لـسليم, وغيّر أسمه الى \”محمد\”, لكن اسما لم توافق على ذلك, \”اسم أبني ميران وسأناديه طوال حياتي بهذا الأسم\”, الجميع ظل يناديه محمد إلا أمه أسما..
الأب, سليم أوسلو راعي مواشي وحكواتي ومطرب قرية صوبيان, والده أوسلو كان يسكن في قرية \”هيمغن\” حيث كان يمتلك معظم أراضيها. عند اقتراب القوات الروسية من القرية في عام 1914, هرب النساء والأطفال الى الجبال, وبقي الشباب والرجال في القرية. والدة سليم سارة, هربت مع سليم وابنتها الرضيعة الى أعالي الجبال, وعند عودة النساء الى القرية, كان أغلب الرجال قد ماتوا أو فقدوا. أعتنى بسليم وسارة \”هيمو\” الصديق الوفي لعائلة أوسلو. لم يبق لسارة إلا سليم, كان هو كل حياتها, كانت تخاف أن تفقده كما حدث مع أبيه وإخوته.
وفي أحد الأيام تم القبض على سليم وأصدقائه من قبل العسكريين الأتراك وأخذوهم الى ثكنات الجيش, كانوا في سن التجنيد, 18 عاماً, وظل سليم هناك بعيداً عن أمه 4 سنوات. عندما عاد الى القرية, وجد أن أرضه قد استولى عليها الفلاحون, وأمه قد ماتت.
الأم أسما بغالي، كانت تعيش في بيت خالها حسين الذي رباها بعد وفاة والدها, الذي قتله العسكريون الأتراك عندما حاول الفرار منهم للالتحاق بالجيش. وتركتها والدتها عندما قررت الزواج من عثمان, التاجر الذي أحبها وتقدم لطلب يدها, لكن أهلها لم يوافقوا, لأن عثمان سني, وأسماسري, والدة أسما, علوية. هربت أسماسري مع ابنها الى قرية \”غومبه\” حيث يعيش عثمان, لم يرحبوا بها في قرية عثمان لأنها علوية, ولم تستطع العودة الى قريتها لرؤية أسما ابنتها, لأنها بالنسبة لأهل القرية امرأة فاجرة هربت مع رجل سني.
في إحدى المرات جاءت لرؤية ابنتها أسما, فلم تعرفها \”أمي ماتت\”، قالت لها أسما بغضب. طردها أخوها حسين, وتجمع حولها أهل القرية وروموها بالحجارة. لذا منعها زوجها عثمان من العودة الى القرية, ولم تر ابنتها بعد ذلك نهائياً.
تزوج سليم وكان عمره 38 عاماً من أسما وكان عمرها 16 عاماً, في قرية صوبيان حيث كانت تعيش أسما. سلوك سليم مع أسما واستعراضه بحبه لها كان أمراً غريباً على أهل القرية, \”أحياناً يحضنها بقوة في ساحات القرية, يقبلها على فمها أمام الجميع, كما لو أنه يريد أن يُري الجميع كم يحبها\”.
يروي ميران عن طفولته في القرية, صديقه علي, والشرير هاكان ابن القصاب آتيلا, طهوره مع علي في سن الخامسة, السنة والنصف التي تعلم بها اللغة التركية على يد المعلم زنكني, الراديو الذي جلبه زنكني معه ليستمع الى أخبار الساعة السابعة, الليالي التي كان يجلس فيها مع علي وأطفال القرية عند شباك غرفة الجلوس لمنزل ألياس حيث كان رجال القرية يجتمعون مساءً في بيت إلياس الكبير لسماع حكايات سليم وغناؤه وهو يعزف على الساز الذي كان يبكي رجال القرية, \”مرة أخرى يا سليم, جعلتنا نبكي مرة أخرى\”, ووجه أخته المتوفاة زيلدا. كان لا يتذكر من طفولته المبكرة إلا وجه زيلدا, \”دائماً كانت بقربي, من بين كل الأشخاص في البيت أجدها غالباً في عينيّ, تريد دائماً أن تلعب معي […] أسمع صوتها في البيت, صوتها قريب جداً, كانت توقظني بصوتها الناعم. وأحياناً, صوتها يبدو ساخطاً مثل صوت شاب بالغ, تقرص خدي حتى أبكي. كان هذا صوت أختي زيلدا\”.
الأخ الأكبر يوسف, أرسله سليم الى موش لتعلم اللغة التركية. تعلم يوسف القراءة والكتابة في موش, ولكنه وجد أيضاً في موش عالم آخر. كان يغيب عن القرية بين الحين والآخر, بحجة أنه يريد تحسين لغته التركية. يوسف أخ غير متعاون, عصبي, متهور، وعنيد, على العكس من والده سليم, وميران. سليم رجل مسالم وطيب ويحترم الجميع ويساعدهم. أما أسما فكانت أمرأة عصبية, قوية, متسلطة, حادة اللسان ولكنها ذكية وكانت لا تخطئ في تقديرها للأمور مثلما كان يفعل سليم الذي يتعامل بحسن نية مع الناس.
في ربيع عام 1966 ذهب سليم لمساعدة صديقه إبراهيم في بناء الحضيرة, سقط على رجله حجر, وانكسرت ساقه. القصاب آتيلا هو من جبّر ساق سليم, جبّرها بطريقة خاطئة, لم يتحمل سليم الألم, كان يتوسل بإبراهيم أن يفك له الجبيرة, ولكن إبراهيم لم ينصت له, وبعد خمسة أيام أخذته أسما الى المستشفى في موش, كانت حالته متأخرة جداً, وكان علاجه الوحيد هو بتر ساقه.
\”الصراخ حوّل أبي الى رجل مكسور الى الأبد […] ركضت بعيداً لأهرب من الصوت, لكنه ظل يتبعني. حتى عندما بقيت خارج المستشفى, وضغطت على أذنيّ, سمعته […] أحياناً, عندما أغلق عينيّ ويحيطني الهدوء وحدي, أسمع الصراخ مرة أخرى, الصراخ الذي غيّر حياتنا الى الأبد\”.
تغيرت حياة العائلة بعد ذلك, علي صديق ميران اختفى, أسما أصبحت عصبية جداً, وتعامل سليم كطفل, مرهقة وكثيرة الشكوى من العناية بالمواشي والبيت. وسليم يجلس طوال اليوم في البيت, يدخن السيجارة بعد الأخرى, صامت, ولا يريد لقاء أحد أو الكلام مع أحد, \”تحول أبي الى ظل رجل\”.
أسما: لم تعد راعيا بعد الآن. لم تعد حكواتيا بعد الآن. وحتى أنك لم تعد رجلا. أنت ماذا إذاً؟ أخبرني سليم. أنت ماذا؟
سليم: لا شيء. أنا لا شيء.
قرر بعدها سليم بيع مواشيه والانتقال الى قريته ومسقط رأسه هيمغن. باع مواشيه الى القصاب آتيلا بنصف ثمنها, ولم يسدد له آتيلا المبلغ بالكامل, كان يتحجج بأنه لا يملك المال. لم توافق أسما على بيع المواشي, ولا على الانتقال الى هيمغن, ولكن سليم لا يستمع الى أسما في مثل هذه القرارات, \”ميران, في مثل هذه الأمور, لا أستطيع أن أفعل شيء.\” قالت أسما.
انتقلت العائلة الى قرية هيمغن, حيث كان هيمو صديق العائلة القديم في انتظارهم. كان سليم يريد أسترجاع أرضه بعد أن فقد كل شيء, قدمه ومواشيه ومنزلته في صوبيان, ولكن أرضه استولى عليها الفلاحين, \” بعد 18 عاماً تريد استعادة أرضك؟ لم تعد أرضك, نحن لسنا في أسطنبول\”. قال مختار القرية. وعندما حاول التفاوض معهم على نسبة من الربح, حاولوا قتله, وهدده ابن المختار \”وسار\” الذي استولى على الأرض, إن لم يترك القرية ويعود الى صوبيان فسوف يقتلونه ويحرقون بيته. وفي معارك وأحداث تشبه أحداث المسلسلات التركية (أو الأفلام الهندية على أقل تقدير), كان العجوز هيمو وأخيه نادار يحولون دون ذلك في اللحظة الأخيرة.
أسما, المرأة القوية التي كان يخاف منها الجميع, تحطمت. تصرخ وتبكي في وجه سليم وتلومه طوال الوقت \”ما الضرورة في قدومنا الى هذه القرية؟ لماذا فعلت ذلك بعائلتك سليم؟ ماذا سنفعل الان, كيف سنبدأ؟ يا الله كن معنا. يا الله أمنحنا الصبر. يا علي, يا علي!.\” نساء القرية منعنها من الماء, وتشاجرن معها قرب صنبور القرية, ولكنها لم تخضع لهن, وضعت أصبعها في عين أحداهن عندما وقفت في وجهها ومنعتها من الماء. كان هذا إنذار لباقي نساء القرية.
الزلزال الذي ضرب القرية والقرى المجاورة في إقليم وارتو في أغسطس من عام 1966, حولها الى خراب. أهل القرية كان همهم إنقاذ ما بقي منهم. سليم, يوسف, نادار وهيمو ساعدوا أهل القرية في محنتهم, والجميع نسي كل ما حدث. أسما, كانت تنظف البيت عندما وقع الزلزال. يوسف أخرجها من تحت الأنقاض, وقد أصيبت برجلها. أما الطفلة الجميلة \”بسيلا\” التي التقى بها ميران وأحب القرية من أجلها, وجدها ميران ميتة تحت الأنقاض. ع\”صورة وجهها الذي كان يظهر من بين الأنقاض,يناها الزرقاوان المفتوحتان, صورة لم تغب عن ذاكرتي بقية حياتي\”. وفي النهاية, شكر المختار سليم على مساعدته لأهل القرية, في مشهد مؤثر.
أرسلت الحكومة التركية, الخيم والطعام الى القرى المنكوبة, ومنحت كل عائلة مبلغ من المال. أغلب أهالي القرية هاجروا الى المدن الكبرى بعد استلامهم الأموال: موش, ميرسن, أزمير وأسطنبول. سليم قرر الهجرة الى ميرسن, ولكن أسما لم توافق على ذلك, \”أزمير, حيث بحر ايجه\”. وافق سليم هذه المرة, \”كانت على حق دائماً\”. هاجرت العائلة من القرية مع المال الذي منحته الحكومة وأموال أعطاها هيمو لهم وورقة فيها عنوان صديقه \”اورهان آصلان\” في أزمير. آصلان ساعدهم وأجر لهم منزل عمته التي توفيت منذ مدة.
\”تركنا كل شيء خلفنا مع خراب القرية. أمامنا الآن أزمير\”. كانت أزمير بالنسبة للعائلة بداية جديدة. البحر, الأشجار, المدنية واللغة التركية والجوامع. في موش وفي طريقهم الى أزمير, كانت المرة الأولى التي يسمع فيها ميران صوت الآذان من الجوامع \”ميران, هذا هو المؤذن. السُنة يذهبون الى الجامع. والعلويين لديهم بيت الجمع\”. قالت أسما.
وجد يوسف في أزمير عملاً في احدى المقاهي هناك, ولكن إدمانه على الكحول حال دون استمراره في العمل. وسليم يقضي وقته كله في المقاهي. أما ميران كان يعمل في مطعم, وعاد الى كتابة يومياته, وشراء الكتب من مصروفه, وخاصة كتب \”محمد الصغير\”, ويدّخر ما تبقى من مصروفه لكي يكمل دراسته في يوم ما, وهذا كان أمل سليم أيضاً.
\”محمد, أنا أؤمن بك دائماً, لدي أمل كبير بك. ولدي, حان دورك الآن لتعتني بنا\”. قال سليم.
أمسكت يد أبي وضغطتها بلطف: \”كل شيء سيكون على مايرام, كل شيء سيكون على مايرام أبي العزيز\”.
ميادة خليل – قراءة في رواية \”الأرض الضائعة\”
2014-01-11 - رياضة