المقال نشر في صحيفة “فيلم كرانت” للكاتب الهولندي: Jos van der Brug
ترجمة: محمود منصور
صناعة الأفلام بحرية ليست بديهية بالنسبة لجميع صانعي الأفلام، حارب المخرج العراقي قاسم حول البالغ من العمر ثمانين عاما ضد الفضوليين الدكتاتوريين لعقود عديدة ومع ذلك تمكن من إخراج ما يقرب من ثلاثين فيلما وثائقيا وخمسة أفلام روائية، يمكن الآن مشاهدة خمسة من أفلامه على موقع Cmena منصة بث الأفلام من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .. محادثة مع الرجل الذي لم يرض بقبول منزل وسيارة مرسيدس كهدية من صدام حسين.
أسوأ ما يمكن أن يحدث لصانعي الأفلام الهولنديين هو أنهم لا يستطيعون العثور على تمويل لأفلامهم، فيما يواجه صانعو الأفلام في العديد من الأماكن في العالم مشاكل أكبر بكثير، وهي عدم قدرتهم على التصوير بحرية إذ تتم مراقبتهم عن كثب من قبل السلطات التي لا تتسامح مع النقد ويخضعون لرقابة صارمة.. صانعو الأفلام الذين يعارضونها معرضون لخطر أن ينتهي بهم المطاف في السجن أو ما هو أسوأ، إنها معجزة صغيرة أن يتمكن المخرج العراقي قاسم حول من سرد قصة حياته بهدوء عبر Zoom من منزله في “فوربورغ”.
عدة مرات في حياته نفذ من ثقب الأبرة، كان من الممكن أن ينتهي الأمر بشكل سيء بالنسبة له، لكنه تمكن دائما من النفاذ من قبضة الطغاة المخيفة، أحيانا في الوقت المناسب. القاسم المشترك في قصة حياته هو النضال من أجل صناعة الأفلام التي أراد أن يصنعها، دون تدخل السياسيين أو رؤساء الأحزاب. كانت تلك المعركة ناجحة في كثير من الأحيان، وأسفرت عن 28 فيلما وثائقيا وخمسة أفلام روائية طويلة.
ولد “حول” عام 1940 في ريف جنوب العراق قرب البصرة، يقول أنه نشأ في أسرة فقيرة مع أخيه وأخته، ولم يكن أبي وأمي يعرفون القراءة والكتابة. لم أتعرف على الثقافة في طفولتي “كان هناك عالم خارج الحياة الريفية، عاشها “حول” لأول مرة عندما كان في السادسة من عمره، في ذلك الوقت كان يوجد سينما متنقلة “السينما الجوالة – المترجم” في العراق تنتقل من قرية إلى أخرى بالإضافة إلى الأخبار والأفلام الوثائقية، عرضوا رسوما متحركة، رأيت “ميكي ماوس” هناك للمرة الأولى. لقد تركت إنطباع قوياً. هذا هو المكان الذي ولد فيه حبي للسينما.
قاسم حول عام 1975
لا شك أن حياة حول كانت ستنتهي بشكل مختلف لو لم تنتقل عائلته إلى البصرة. في هذه المدينة إحتك حول بالثقافة، كان في دائرة المسرح.. وعندما طلب منه التمثيل في سن السادسة عشرة، إنتهز الفرصة: “صنعت إسماً لنفسي كممثل شاب وبعد عامين أسست مجموعتي المسرحية “النور” ، كما أنني كتبت بعض المسرحيات وكتبت النقد”.
بعد ذلك بعام إنتقل حول إلى بغداد لدراسة الدراما في معهد الفنون الجميلة لمدة أربع سنوات “خمس سنوات – المترجم، كان حبي مع السينما، لكن المعهد لم يكن فيه قسم لتعلم السينما، ومع ذلك كانت الدراسة تجربة تعليمية جيدة لمسيرته المهنية اللاحقة كمخرج سينمائي “تعلمت التعامل مع الممثلين”.
بعد تخرجه، قاد سعيه للأستقلال الفني إلى تأسيس شركة إنتاج “أفلام اليوم” مع أحد أصدقائه. كتب “حول” قصة فيلمهم الروائي الأول “الحارس” The Guard 1970 كوميديا تراجيدي عن حارس ليلي يقع في حب أرملة ترفضه عندما تقدم طالبا للزواج، لعب “حول” نفسه دوراً فيه، لكن الدور الرئيسي كان للممثل “مكي البدري” الذي سيصبح صديقا له مدى الحياة.
حقق الفيلم نجاحاً في العراق وجلب شهرة لـ “حول” أما الجانب السلبي فكان أن حزب البعث، الذي كان إستلم السلطة بعد عامين أراد أن يدمجه معه. لقد أرادوا أن يجعلوني عضوا في الحزب وأن يجعلوا شركة الأفلام الخاصة بي تحت سيطرة الحزب، ولأنني رفضت وقعت في مشكلة مكثت فيها في المعتقل لمدة أسبوعين حيث تعرضت للتعذيب. عندما أطلق سراحي غادرت العراق على الفور وذهبت إلى لبنان . هناك طلب صديق لي تولي قسم الثقافة في مجلة فلسطينية تصدر هناك .. هذا ما بدأت فعله.
الأهوار.. مرسيدس
عاد “حول” إلى العراق بعد أربع سنوات، في عام 1974، عندما بدأ للحظة أن حزب البعث سيجري تغييرات ديمقراطية. كان السبب المباشر لعودته هو طلب من جمعية جديدة لصانعي الأفلام العرب “المقصود إتحاد السينمائيين التسجيليين العرب – المترجم”، تنشط في العديد من الدول العربية لإدارة فرع الإتحاد في العراق. في البداية رفضت لأنني كنت خائفاً، لكن عندما أعرب وزير عن أسفه لما حدث لي .. عدت، لكن صنع فيلم الأهوار – 1976 وهو فيلم وثائقي عن سكان منطقة المستنقعات في جنوب العراق، أوقعني في مشاكل مرة أخرى. ففي البيوت البائسة حيث أردت التصوير، وضعت المخابرات ملصقات الدكتاتور أحمد حسن البكر وصدام حسين الذي كان آنذاك يد البكر اليمنى، وضعوها فوق البيوت. رفضت التصوير إذا لم يتم إزالة تلك الملصقات .. فتم إيقاف التصوير وطلبوا التوجه إلى بغداد للقاء المخابرات كحل وسط، ثم سمحوا لي بإكمال الفيلم بالطريقة التي أردت صنعها، لكن كان لديهم الحق في حظر الفيلم إذا لم يكونوا راضين عنه. حدث هذا أخيراً .. وبعد ذلك أطلقوا سراح الفيلم.
في مسرحية الظل بين النظام وحول، سمح للمخرج بعد ذلك بإخراج فيلم روائي طويل تم ذلك في حارة عشوائية – “1978.. “المقصود فيلم بيوت ذلك الزقاق” وفي الدراما يقتل جهاز المخابرات الصحفي الذي يكشف فضيحة حصلت في العلن .. حقيقة أن جريمة القتل وقعت أمام نصب تذكاري وطني في ساحة التحرير ببغداد، أخطأ وزير الثقافة طارق عزيز حين طلب مني إعادة تصوير المشهد وإطلاق النار عليه في حي فقير، ولأنني رفضت، دعيت للقاء مع صدام حسين، الذي أعلن بالفعل من خلال طارق عزيز أنه يريد أن يمنحني منزلا وسيارة مرسيدس كهدية.. غريب؟ بالتأكيد لم إنتظر.. كان من المفترض أن ألتقي صدام في الساعة الحادية عشرة صباحا في اليوم التالي، لكنني غادرت البلاد إلى ليبيا في الساعة السابعة صباحا “يضحك .. صارت الأجهزة يبحثون عني في كل مكان”.
عائد إلى حيفا.. أصيل
عاش حول وعمل بالتناوب بين ليبيا وروما لبعض الوقت، ولكن بعد بضع سنوات عاد إلى لبنان، البلد الذي كان ملجأ له قبل عقد من الزمان .. في لبنان قام بإقتباس مؤثر لرواية الكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني – عائد إلى حيفا” .. في هذه الدراما، إختفى طفل لزوجين فلسطينيين عام 1948 بعد تهجير الفلسطينيين من حيفا، وبعد عشرين عاما، عندما سمح للزوجين بزيارة حيفا للبحث عن إبنهما. إكتشفوا أنه تم تبنيه من قبل مهاجرين يهود من بولندا عام 1948 كان الإجتماع مؤلم لجميع المعنيين، ويثير تساؤلات حول الأبوة والأمومة. من يجب أن يعتبر الصبي البالغ من العمر الآن عشرين عاما، وهو جندي في الجيش الإسرائيلي، والديه الحقيقيين؟
“عائد إلى حيفا” دراما مثيرة للإعجاب، يصفها “حول” بأنها ليست فيلما ثورياً، لكنها فيلم موضوعي يحلل الواقع .. وليس من قبيل المصادفة أن المشاهد في ميناء حيفا الذي يفر منه الفلسطينيون من المدينة في قوارب تترك إنطباعا حقيقيا. قضيت ثلاثة شهور اتحدث مع الناس في المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان عن الفيلم، وأطلب منهم المشاركة، وقد ساعد في ذلك دعم رئيس الوزراء اللبناني “رشيد كرامي” للفيلم، ونتيجة لذلك سمح لنا بتصوير مشاهد حيفا في ميناء طرابلس.
يتجلى تعقيد الوضع السياسي في حقيقة أن “حول” كان بحاجة أيضا إلى إذن من سوريا للتصوير في طرابلس لأن الجيش السوري كان قد إحتل شمال لبنان، لكن القادة السوريين رأوا أيضا أهمية الفيلم، حسب “حول” بل أنهم قدموا لنا طائرة هليوكبتر للتصوير من الجو. سادنا الخوف عندما ظهرت مقاتلات إسرائيلية تحوم حول مروحيتنا. كنا خائفين من أن يسقطوا المروحية، لكنهم لم يفعلوا “يضحك .. ربما أعتقد الطيارون أن الفلسطينيين سيغادرون لبنان الآن كما حدث في عام 1948 من حيفا..!”
حقيقة أن فيلم “عائد إلى حيفا” لم يحض بالأهتمام الذي يستحقه الفيلم عام 1982 بسبب إحتلال إسرائيل للبنان في الوقت الذي كان من المقرر إفتتاح الفيلم في لبنان، كان لدى اللبنانيين والفلسطينيين مخاوف أخرى غير الذهاب لمشاهدة فيلم بعد أربعين عاما تقريبا، ولدهشة “حول” تجدد الإهتمام بالفيلم .. هناك طلب كبير على العروض كل أسبوع تقريبا توجد جامعة أو مهرجان يطلب الإذن بعرضه”
المجزرة.. صبرا وشاتيلا
بعد عامين من “عائد إلى حيفا” في عام 1982 أنتج “حول” فيلما وثائقيا عن مجزرة “صبرا وشاتيلا” عن المذابح المروعة في مخيم شاتيلا لللأجئين الفلسطينيين ومنطقة صبرا في بيروت، قتل فيها بين 700 و3500 فلسطيني على يد مليشيا الكتائب اللبنانية. بعد أيام قليلة من هذه الفضائع صور “حول” إفادات ناجين من المجازر وجنديين إسرائيليين أسرى مما يجعل من الفيلم وثيقة فريدة.
بحثا عن حياة أكثر هدوءا، غادر “حول” لبنان وإستقر في أثينا، أصبح مراسلا لمجلة “لبنانية – الصحيح خليجية – المترجم” .. كانت الحياة جيدة هناك، لكن الدكتاتورية العراقية لم تتركه يرتاح. تلقيت تهديدات. “كانت المخابرات العراقية تريد بشدة أن تؤذيني في أثينا” عندما جاء إلى أمستردام في عام 1992 لتحويل فيلم منفوخ من 16 ملم إلى 35 ملم في مخبر أفلام CINECO حيث لم تكن هناك مخابر تقنية لهذا النوع من التقنيات في أثينا، وقع في حب المدينة وإستقر مع زوجته وإبنته في هولندا. لا يوجد بلد أفضل من هولندا، كما يقول “حول” الناس لطفاء للغاية ومتعاطفون. الهولنديون هم أفضل الناس في العالم .. أنا ممتن لهولندا، لكن المخابرات السرية التابعة لصدام حسين تمكنت أيضا من العثور على “حول” في هولندا لأنه بعد سنوات تعرض للتهديد هنا أيضا. “تلقيت رسالة تحثني عن التوقف عن معارضة الدكتاتورية. أعطيت الرسالة للبوليس الذي بقي يراقب منزلي حتى سقوط الدكتاتورية”.
المغني.. مليونير
بعد ما يقرب من عشر سنوات من سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري، قدم “حول” وبدعم من الـ ARTE الفرنسية الفيلم الناقد الذي لم يحض بفرص العروض في العراق، المغني LE CHANTEUR عام 2011 ” المقصود لم يعرض في العراق بسبب بعض المشاهد المحرمة – المترجم”.. يصور الفيلم مجموعة مختارة مدعوة إلى عيد ميلاد دكتاتور ينصب التركيز على مغن يعاني من عطل في سيارته وهو في طريقه إلى “الحفلة” مما إضطره لأن يتأخر .. لم يشكره الدكتاتور الذي سمح لجميع المدعويين بالتنصت .. السخرية تخترق أجواء الفراغ المخيف للدكتاتورية .. لا أحد يجرؤ على مناقضة الدكتاتور الذي يحيط نفسه برجال النعم وحراس الأمن. يهين خصومه بإرغام زوجاتهم على ممارسة الجنس .. لا يمكنهم الرفض خوفا من العقاب، لكن يمكن أن نرى أيضا كيف يسقط الإنتهازيون لصالح الدكتاتور.
بعد هذا النقد الحاد.. أنتج “حول” الفيلم الوثائقي “الممثل وأنا” قبل ثلاث سنوات، حيث زار صديقه الممثل القديم جدا الآن “مكي البدري” الذي لم يعد يعيش أيضا في العراق، ولكن في السويد، يؤدي ذلك إلى رحلة حنين إلى الماضي عبر ذاكرة حارة، عندما إعتنق كلاهما الحياة كشباب طموح في العراق .. الآن وقد تقدموا في السن “لم يبق سوى الفراغ بين أصابعنا” كما يقول “البدري”.
أحسنت القول، لكن بالنسبة لـ “حول” هذا غير صحيح، لأنه لا يزال نشطا جدا في عالم السينما، في الأشهر الثمانية عشر الماضية على سبيل المثال، كرس نفسه لأنقاذ أرشيف الفيلم العراقي “كل شيء تم إنتاجه منذ العام 1920 موجود في مبنى ، نصف سقفه قد إنهار وحيث الأمطار تنزل في داخله .. إنها حقا كارثة. طلبت مساعدة الجيش لأرشفة جميع الأفلام وإحضارها إلى متحف.. لقد صنعت فيلما وثائقيا عن إنقاذ الأرشيف والذي أقوم بعمل المونتاج له الآن في هولندا.”إسم الفيلم غداً بإتجاه الأمس – المترجم”.
من يظن أن “حول” يشعر بخيبة الأمل والمرارة من التطورات في العالم، وخاصة في وطنه العراق، فهو مخطئ، أنه لا يأخذ هذا البؤس على محمل شخصي .. “لقد قاتلت بما فيه الكفاية من أجل الناس.. لو فعلت كما أرادتني الدكتاتورية في العراق وبعض الدول العربية أن أفعله، لكنت صنعت أفلاما كبيرة لا معنى لها وأكون مليونيراً، لكنني أفضل أن أعيش بسلام وطمأنينة “يضحك” على الرغم من ذلك فأن كلماتي الأخيرة ستكون على الأرجح .. “الممثلون مستعدون .. أكشن”!.