تعلمنا من حياتنا الماضية (قبل 2003) العنف في السلوك والقول، وحتى عندما نعبر عن رأينا، نستعمل الصوت العالي وحركة اليد الانفعالية، ولا نسمح للمقابل بان يتكلم، واذا اختلف معنا في الرأي، زعلنا عليه، حتى حزننا، عندما نريد ان نعبر عنه، هوَّسنا، وفَرَحنا ايضا، هوسات. العنف سلوكا ولفظا يسيطر علينا، ربما لاننا عشنا عصر ألم وقسوة، وحقوق ضائعة نريد أن نحصل عليها بإي طريقة. وللأسف لا زال سلوك العنف هذا يطاردنا وينسج خيوطه حول الشخصية العراقية التي مرت بما لم تمرّ به أي أمة.
في 31 آب خرجتُ مع أبطالنا شباب التظاهرة الداعية الى الغاء رواتب النواب التقاعدية، تصرف الجيش والشرطة معنا في منتهى التهذيب، هذا ما شاهدته انا على الاقل في ساحة الأندلس من ساعة 11.30 صباحا حتى ما بعد الظهر، كانت قوات سوات (التدخل السريع) تقف على مبعدة منّا، بدأ هياج بعض المتضاهرين وبدؤوا (يهوسون) بطريقة العراضات العشائرية التي ترافق مواكب تشييع الميت. أحدهم وربما اكثر، استخدم كلمات نابية بحق الجيش العراقي، تقدموا باتجاه الأربعين حرامي وكانت الأوامر تمنع الوصول الى هذا المكان، هجمت قوات سوات وضربت المتظاهرين بالهراوات وأرجعتهم الى مستشفى الشيخ زايد ثم انسحبت. عاد الشباب الغاضب من جديد الى (الهوسة) والقفز والصراخ، وبعضهم سب سبا جارحا قوات سوات، عندها أعلنت انسحابي من التظاهرة.
ليلا تفرجت على نشرة الاخبار، رأيت متظاهرين في مكان ما من العالم، اعتقد اوربا، كان الكل يسير بهدوء، الكل يحمل ورقا مقوى -غالبا ما يكون ملون- مكتوب عليه بحروف واضحة مطلب المتظاهر او المتظاهرين. كانت الشرطة تقف حولهم لا تستطيع ان تضرب احدا لأن الجميع لم يخل بقواعد الادب، لم يشتم، لم يصرخ، لم يهوس، ولم يسب الشرطة، الكل يسير بقدسية كما لو كان يسير في معبد، جميع وكالات الانباء العالمية نقلت هذه التظاهرة الجميلة الملونة بهدوء، وبهدوء أيضا وصل صوت المتظاهرين، تساءلت، لم لا نستطيع ان نعبر عن مشاعرنا وافكارنا بهدوء، او (بالتي هي احسن)؟ لم نصرخ؟ لم نغضب من اجل حقوقنا بينما نستطيع ان نداعي بها بمنتهى الهدوء والاناقة، هدوء غاندي الصامت الذي طرد بجوعه اقوى جيوش الاستعمار ذات احتلال؟
قبل أيام، التقيت بصاحب بسطية في الباب الشرقي يبيع الملابس المستخدمة (اللنكة) وشكا لي، من ان رزقه انقطع بسبب التظاهرات التي تخرج في كل جمعة في ساحة التحرير، بسبب الإجراءات الأمنية، وقطع الطرق، فقرر بيع بسطيته ليعمل سائق سيارة اجرة. فكرت بالموضوع، نحن نخرج لننادي بحقوقنا بينما نعتدي على حقوق الاخرين دون قصد طبعا.
في الهايد بارك في لندن، وهي اكبر حدائق العاصمة الإنكليزية العتيدة في الديموقراطية، يوجد ما يعرف بـ سبيكرز كورنر(Speakers Corner) أي زاوية المتحدثين، والتي تقع في القسم الشمالي الشرقي من الحديقة، حيث يجتمع فيها الناس كل يوم أحد، لإلقاء كلمة أو محاورة حول موضوع ما بكل حرية، لم لا توفر الدولة العراقية مكانا آمنا مسيطرا عليه ليكون هايد بارك عراقي يذهب اليه كل من له كلمة او راي او مطلب ما من الحكومة، وتضع – الحكومة- في هذا المكان مندوبا عنها يستلم طلبات المتظاهرين فيها وينقلها اليها لتدارسها؟
ولِمَ أيضا، لا يخرج المتظاهر العراقي في قمة اناقته، يحمل ورقا مقوى ملون، يكتب عليه كلمته ويسير في هذا المكان بكل ادب ومسؤولية فلا يستطيع أي احد من سوات ولا غيرها الاعتداء عليه؟
مطلوب من الدولة توفير ساحة للرأي في بغداد وفي كل محافظة عراقية، ومطلوب من المتظاهر العراقي المخلص لوطنه، ان يخرج وهو في قمة التحضر والاناقة في سلوكه وفي طريقة عرض مطلبه.
ملتقانا المظاهرة القادمة…
نريد هايد بارك عراقي
2013-09-09 - منوعات