صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

نسبية المعايير

منَ الواضحِ أنَّ هنالك أناساً سادة وآخرين عبيد بحكمِ الطبيعة، من النافعِ والعدلِ لهم أن يكونوا عبيداً.

هذا الرأي «العنصري» «اللا أخلاقي» يعودُ لأرسطو، أحد أكثرِ الفلاسفةِ اهتماماً بالشأنِ الإنسانيّ. فهل يمكننا بناءاً على هذا الرأي تصنيفُ أرسطو كعنصريٍّ أو لا أخلاقي؟!

 

بالطبع لا، أولاً: لأنَّ التصنيفات الجاهزة لا يمكن استخدامها في الحكمِ على التاريخ، وثانياً: لأنَّ أحكامنا وآرائنا غيرُ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكان، فالحضارةُ التي عاشَ بها أرسطو تختلفُ كثيراً عن حضارتنا، لها معاييرٌ مختلفة، وأخلاقٌ مختلفة. كانت حضارةُ الإغريقِ تبني على العبيدِ اقتصادها ونظامها السياسي الذين كانا يحميانها من شرِّ الهجماتِ الخارجية والثورات الداخلية، فهل يجبُ هدمُ النظام وتعريضُ كلِّ الناسِ لخطرِ الفوضى في سبيل إعطاء الحريَّة للعبيد؟!، أجاب أرسطو بالنفيِ على هذا السؤال، وأعتقد أنَّه لا يلام على ذلك.

 

أنا لا أحاول تبريرَ الاستعباد، فهو جريمةٌ  لا تبرَّر، ولكنّي بنفسِ الوقت أفهمُ الحاجات الاقتصادية والسياسية التي قادت الناسَ لاستخدامِ هذه الطريقة لحفظ النظام، مثلما أفهمُ الحاجات الاقتصادية والسياسية التي قادتنا الآن لقبولِ تفاوتِ الثروات الشاسعِ بين الأفراد للسبب نفسه. فعندما يملك عُشرُ سكّان العالم أكثرَ من ثلاثةِ أرباع الثروةِ المتاحة، بينما يتقاسمُ تسعونَ بالمئة منهم الربعَ الذي تركَهُ الأغنياء في ظلِّ مجاعاتٍ تبيد الملايين باستمرار؛ لابد من وجود خطأٍ ما، ولكنّنا نقبل هذا التقسيم وندعمه بتبريراتٍ مضحكةٍ أحياناً وعميقةٍ أحياناً أخرى، لأن خلفه ضرورات اقتصادية وسياسية تجعله ملازما للنظام الذي نحتاجه لنكون بشراً.

  

الآن، فلنترك يقينياتنا حول المستقبلِ للحظة، ونتخيَّل أنَّ الناسَ بعد ألف أو ألفي سنةٍ من الآن استطاعوا إبداعَ نظامٍ جديدٍ يلبّي الحاجات الاقتصادية والسياسية للمجتمع دون وجود تفاوتٍ اقتصاديٍ يؤدّي لمجاعات قاتلة، ألن نبدو في نظرهم «لا أخلاقيين» و ربما «متوحشين» مثلما يبدو المستعبدون القدماء متوحشين في نظرنا؟!. أما من يقولُ أنَّ هذا التحولَ مستحيلُ الحدوث، فليعلم أنَّ سابقينا كانوا يعتبرون حياتنا الحالية مستحيلة الحدوث.

   

ومهما كثُرَ عددُ الكتبِ التي نؤلِّفها والأفلامُ التي ننتجها عن فترتنا هذه؛ سنبقى متوحِّشين بالنسبةِ لهم، ولن يرحمنا بينهم إلا من يقرأ تاريخنا بتعمق، فهو وحده الذي سيفهمُ ظروفنا وينظر للأمور من منظارنا ووفق معاييرنا لا معاييره هو، وهذا يجعله الوحيد المؤهل للحكمِ علينا، فلا يحقُّ لمن لم يفهم حضارتنا تقييمنا، كذلك لا يحق لنا تقييم قومٍ دون أن نفهمَ حضارتهم، فمُحاسبة الحضارة الإسلامية مثلا بمعاييرنا الحالية انتحار منطقي، ومحاكمةُ العصورِ الوسطى بقانونِ القرنِ الواحد والعشرين مهزلةٌ فكرية. فلكل عصر معاييره.

 

أما خلاصةُ المقال التي يفرضها علينا أتكيت الكتابة، فسأستَعيرُها من كارين آرمسترونغ التي كتبت:

    

«كل قراءة للتاريخ بأثرٍ رجعي من وعينا العلماني استناداً إلى الفصل المفهومي بين ماهو ديني وما هو سياسي، هي قراءة مغلوطة تقوم على مفارقة لا تاريخية».

إقرأ أيضا