كانوا يتعانقون بعد كل جلسة يجلسونها في أحد البارات، هناك في المنفى، استذكروا أيام زمان كثيرا وأعادوا الأحداث وترجموها كؤوسا تضرب بعضها بعضا، ذاك الوكر في المنصور، غادرناه عام 1979 عبر كردستان إلى تركيا، كان رفاقهم معهم في كل جلسة، وكانت مناضد البارات عبارة عن رجال أمن وشرطة ومناضلين، أما الكؤوس فكانت رؤوس المعارضين، والملاعق والسكاكين رجال الأمن والشرطة والمخابرات. اتسعت دائرة المنفيين، وانضم إليهم عدد كبير من ثوار 1991، وهذه المرة كانت الكؤوس دبابات والملاعق والسكاكين طائرات تقصف مناضد البار التي تحولت إلى أشلاء، ومع هذا كانوا يتعانقون بعد كل جلسة خمر مملوءة بأحداث الحرب الكونية في العراق.
وبعد عام 2003 عادوا إلى العراق، ووضعوا أسماءهم وسير حياتهم في الطرقات، وعلى واجهات العمارات، انخدع بهم الشعب وانتخبهم نوابا عنه وأعطاهم شرعية أن يمثلوه في المجلس العتيد. اختلفت النوايا وكذلك المجالس اليومية. تركوا البارات لأنهم شخصيات يختلف وزنها عن الآخرين، واستعاضوا عنها بالغرف المظلمة الكبيرة، وصارت المائدة من الرمل، واستبدلوا الشوكات والملاعق والسكاكين بآلات حرب حقيقية، واستبدلت الكؤوس ببشر عاديين، ودأبوا على تحريك المسلحين والمفخخات والعبوات الناسفة. كان أبطال الجلسة يحملون المسدسات الكاتمة والبنادق الحديثة، ووصل الأمر إلى الدبابات وقذائف الهاون والمدفعية، وانطلق أكثر ليشمل المغامرة الكبرى باحتلال المدن وإبادة طوائف متعددة، لتجلس على المائدة الكبيرة أطراف دولية ومحلية وإقليمية، توسعت اللعبة وما عادت الملاعق والسكاكين تعني شيئا.
كانوا أيضا يتعانقون بنهاية كل جلسة حربية، ولكنهم هناك في مبنى مجلس النواب وأمام الشعب كانوا يتنازعون، لا توقيع للميزانية، ولا إقرار لقانون البنى التحتية، ولا استيراد للأسلحة. لا تعيينات ولا بناء، فقط هناك في المجلس كانوا يتداولون مصطلحا يحبه النواب.. نقطة نظام، وهذه النقطة يستعرض خلالها النواب عضلاتهم، ويحفظون ما يقولونه بها جيدا، يقفون أمام المرآة جيدا إذا كانت لديهم نقطة نظام لذلك اليوم، يشذبون لحاهم ويصبغونها، يصففون شعورهم، أو يرتبون عمائمهم، حتى أنك ترى قامات فارعة وبدلات مزينة بالأربطة الحمراء والخضراء والصفراء، كأنهم ممثلون أجانب، وليسوا ممثلين عراقيين، فالممثل العراقي المسكين بات مسحوقا حاله حال الشعب المتعب والمنهك، إنهم ليسوا أولئك المنفيين، بل إنهم أقوام آخرون. استبدلوا الملاعق والسكاكين وصارت الصولات والجولات حقيقية، هم أنفسهم ولكنهم لا يتعانقون أمام كاميرات التلفزيون في مجلس النواب. نقاط النظام تترى.. تصول في أروقة المجلس، ومنهم من آثر الصمت البليغ، لكنه لا يمنع أن يكون موجودا في اجتماعات الغرف المظلمة الكبيرة. نقطة نظام سيادة الرئيس، سيدي الرئيس، شعبنا المسكين الأعزل تآمرت عليه الدول المجاورة بمساعدة أميركا، ولذا احتلوا 40 في المئة من أراضيه، ومع هذا فنحن نرحب بالدعم العربي لقضية العراق المصيرية والتي ستغدو مركزية، وهي وحدة العراق بعد تحرير الموصل. لم نكن نعلم أن داعش لديها هذه الإمكانات، ولذا تركنا حدود العراق مكشوفة، لأننا نثق بإخواننا العرب، كما وثقوا بنا من قبل. نقطة نظام أخرى، علينا تحرير التاجي من دنس المعتدين والمحتلين، أبناء داعش والغبراء ومعهم العشائر الضالة. نقطة نظام القصف الأممي العراقي على هانوي.. لا على الموصل والفلوجة غير قانوني، أما احتلال داعش للمدينة فهو قانوني بامتياز. لم نكن نعلم أن الملاعق والسكاكين في يوم ما ستنقلب أدوات حربية، والكؤوس التي نحتسيها في البارات رؤوسا مقطوعة تشخب دماء وتخيف الأطفال على شاشات التلفزيون، سيادة الرئيس.. نقطة نظام أخيرة: الوطن سكران يا سيادة الرئيس، وكان من الضروري أن يصحو من سكرته.
* عبد الله السكوتي: كاتب عراقي