صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

 هروب للأمام أم دعوة لتحمل المسؤولية؟

فصول رواية (مروج جهنم) للروائي حازم كمال الدين هي: الصراط المستقيم للحرية. عجاج الصراط المستقيم للحرية. أم المعارك. غيض من خفايا أم المعارك. في القبو الفردوس. الأطفال. خاتمة. الموضوع المركزي في الرواية هو، العنف، أو الحرب (المقدسة)، التي تختصرها ثيمة جهاد النكاح.

 

لكننا لا نجد في هذا النص الروائي مواصفات الرواية الحربية: لا ساحات قتال حقيقية، ولا جبهات أمامية وخلفية، ولا معدات عسكرية، ولا معاناة للمدنيين جراء عمليات قصف، ولا محاولات انتحار لعسكريين تخلصا من رعب الحرب، ولا ساحات تدريب، ولا حتى مفردات تقنية حربية، كما هو شائع في الروايات الحربية.

 

الروائي حازم كمال الدين يريد، كما أظن، لهذه الرواية أن تكون تصفية حساب مع كل شيء، وهجاء ضد كل شيء: الحروب، السياسة ودهاليزها المظلمة، والديكتاتوريات التي حكمتنا وما تزال تحت مسميات مختلفة، وآخرها المسمى الديني (جهاد النكاح)، وضد العادات والتقاليد، وضد الفهم الخاطئ والتطبيق الخاطئ للدين، وضد الحروب العبثية المدمرة التي حصدت أرواح الملايين من الشباب، وضد تسخير الأدب والعمل القصصي خصوصا لأهداف تخدم الديكتاتوريات، وضد ادعاء البشرية، وتحديدا تباهي الانظمة الغربية، بإلغاء العبودية، في إشارته لعام 1833، أي سنة صدور قانون إلغاء العبودية الذي شرعه البرلمان البريطاني ذاك العام. وحتى في رفض المؤلف للأسلوب الكلاسيكي المتعارف عليه في كتابة (الرواية)، وانتهاج تقنية فيها الكثير من التفرد. رواية (مروج جهنم) هي مزيج من السرد، والشعر، وتداخل الأحداث بحيث بإمكانك أن تحذف سطورا ومقاطع، ومع ذلك لا يحدث خلل كبير في موضوع أو ثيمة الرواية، وفي هذا كله يسعى المؤلف لإثبات قدرته أو بالأحرى رغبته (المحققة) في الربط بين الأسطورة والواقع، باعتبار أن الواقع، الذي يستهدف المؤلف كشفه وتعريته وإدانته، هو نفسه يفوق، في لا عقلانيته وعبثيته، الأسطورة أو الخيال.

 

Image

 

حازم كمال الدين يرى أن واقعنا الذي نعيشه، وخصوصا في العراق أو العالم العربي أو في الشرق عموما، هو واقع فاسد منحط سافل وحقير، وهو جهنمي أكثر من جهنم نفسها، وفي آن واحد، هو في غرائبيته أغرب من الغرائب وأكثر فنتازيا من الفنتازيا ذاتها وأكثر سريالية من السريالية. ومن أجل فضح هذا الواقع يثير حازم موضوع (المحرمات)، فيلجأ للأيروتكي، ولا يتردد من استخدام مفردات جنسية بأسمائها وأحيانا بالتعبير الدارج، أو ما يطلق عليه التعبير الداعر. لأن هذه المحرمات لا حرمة لها أصلا، في واقعنا المعاش، ويتم انتهاكها يوميا من قبل أناس يدعون تقديسها وحمايتها. وحازم لا يؤاخذ على هذه الاستخدامات، لأنه ليس هو أول من استخدمها، فأدبنا العربي التراثي يعج بها، ولعل القارئ يتذكر (ألف ليلة وليلة)، (رجوع الشيخ إلى صباه)، (الروض العاطر في نزهة الخاطر) للشيخ النفزاوي. وشخصيا أجد أن داليا الراوية في رواية (مروج جهنم) هي شهرزاد في ألف ليلة وليلة. فمثلما أن شهرزاد هي شابة تحكي وقائع تم تجميعها في كتاب اسمه (ألف ليلة وليلة)، فإن داليا هي، أيضا، شابة تحكي وقائع خيالية، مثل محتوى ألف ليلة وليلة، تم تجميعها في كتاب اسمه (مروج جهنم).

 

ومثل ما موجود في ألف ليلة وليلة فإن مروج جهنم تنفتح على دراما مفعمة بالكراهية والدم والقتل والتحايل. ومثلما توجد الأنثى شهرزاد والرجل شهريار، توجد في رواية حازم الأنثى، داليا والرجل العقيد. ومثلما تشدنا مهارة شهرزاد في السرد، تشدنا أيضا داليا عن طريق تمكنها من فن التواصل، فداليا دائما ما تريد أن تتأكد بأن القارئ يتابعها، تريده أن يعطي رأيه، وأن يكون مشاركا فعالا، لا متلقيا، فتقول: (لا أظن أنها موجودة إلا عندنا)، وهنا تريد الراوية أو يريد المؤلف من القارئ أن يرد بنعم أو لا. أو تقول داليا (أمور غير منطقية)، فيرد القارئ بنعم أو لا، وتقول، مخاطبة القارئ بالتأكيد: (أنت تعرف ما أعني) أو (لم أفهم ولم تفهم أنت)، فيجيب القارئ بنعم أو لا، أو تقول (أسهبت … أسهبت من جديد) فيجيب القارئ بنعم أو لا، وتقول (والآن أخرج عن الموضوع …) فيجيب القارئ بنعم أولا. الراوية/المؤلف يريد دوما من القارئ أن يبقى يقظا متابعا، ويريد منه إعطاء أجوبة وطرح أسئلة، أيضا، أسئلة مضادة لما تطرحه الراوية أو اتفاقا معها. ربما يرى بعض القراء أنها محاولة من المؤلف للهروب للأمام، وقطع كل جسور العودة، لكنها، أيضا، دعوة لتحميل القراء المسؤولية، وإشاركهم في إيجاد حلول. والتقنية الطاغية التي يستخدمها المؤلف لربط القارئ، وطبعا للتعبير عن أفكاره التي يريد طرحها في الرواية، هي التناص والتناقض. وأنا أسمي (مروج جهنم) رواية التناص، والتناقض المقصودين أو المحرضين. التناقض والتناص نجدهما، أول ما نجدهما، في عنوان الرواية (مروج جهنم). مفردة مروج تقترن وتستحضر الفرح والبهجة، حيث الخضرة والأشجار المثمرة وغناء الطير والبشر… إلخ، بينما مفردة جهنم تحيلنا للعذاب الشديد، ولكل مضاد في عالم المروج.

 

بعد ذلك نجد التناص والتناقض في عنوان الفصل الأول: الصراط المستقيم للحرية. فتحضر في أذهاننا، حالا، سورة الفاتحة الآية 6 (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وسورة الأنعام الآية 153 (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وسورة الزخرف الآية 43 (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وقوله (حين اقتربت الساعة وانفلع الوقت) تناص مع (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ). وهناك الكثير من التناص مع آيات قرآنية أخرى، مثل: ص 34 (قراءة كأنها قل اف للوالدين وانهرهما) وهي كما نعرف عكس سورة الإسراء الآية 23 (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا). بعد ذلك نقرأ: (فأحالته عصفا مأكولا، حجارة من سجيل)، وهي تناص مع سورة الفيل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) وأيضا (سوى ربك ذي الجلال والإكرام). تناص مع سورة الرحمن الآية 27 (وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) وكذلك (شجرة عصماء أصلها ثابت في الأرض وفرعها في عنان السماء) هي تناص مع سورة ابراهيم الآية 24 (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ). وفي إصرار من المؤلف لإثبات (تناقض) وزيف وكذب الواقع الذي يريد تعريته في روايته، فأنه يستمر في إيراد المزيد. فبعد التناقض الذي نجده في عنوان الفصل الأول، نجد التناقض في بداية الرواية، أي في اسم الراوية (داليا). مفردة داليا تحيلنا لكرم العنب وكل ما يقترن به من فرح وبهجة. اسم داليا مثل أسماء ياسمين، زهرة، ريحانة، نرجس، وردة. لكن داليا في رواية حازم كمال الدين ليس إلا تجسيدا للعذاب والعبودية والحزن والكآبة وكل ما هو مناقض لدلالة اسمها. وفي مكان آخر (ص 87) نجد تعبير تناصي (كمركب سكران)، وهي إشارة لقصيدة الفرنسي رامبو، (المركب السكران)، ربما في إيحاء من الروائي بأن (مروج جهنم) هي، أيضا، إبحار في عالم مجنون وفاسد تختلط فيه الوقائع مع الهلوسات، باتجاه شواطئ الحرية والرفض والتمرد. بعد ذلك نجد التناص في الشعر: (ألا هبّي برملك فانقذينا ولا تبقي على أحدٍ منهم)، وهي محاكاة استهزائية هجائية لقصيدة عمر بن كلثوم (أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا… وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا… بِيَـوْمِ كَرِيْهَةٍ ضَرْباً وَطَعْنـاً… أَقَـرَّ بِـهِ مَوَالِيْـكِ العُيُوْنَـا). وهنا علينا، حتى نعرف غرض السخرية والهجاء، أن نستعيد مشهد البعير المربوط بالدبابة في الرواية. ثم نصل الخاتمة التي تختتمها الراوية، داليا: (عزيزتي، عزيزي، أنا ترانسجندر مان. البقية عليك). داليا لا تبالغ في قولها، فهي ترانسجندر، لا هوية لها، مثل الترانسجندر، يحمل أو تحمل في طياتها الذكورة والأنوثة. ومجتمعاتنا كذلك، لا هوية لها، مثل (القادة) الذين يتحكمون بمصائرنا. ولهذا يستخدم المؤلف تسمية (أبو سفيان الموسوي) مقترنا بنكاح الجهاد، بما يتضمنه الاسم من دلالة رمزية. فرغم الاختلافات الظاهرة بين المتعصبين (في المذاهب)، بل المتقاتلين فيما بينهم، أو الباحث كل واحد منهم عن هوية مذهبية تميزه وتفرقه عن الآخر الشيعي أو السني، إلا أن كلا الفريقين مع نكاح الجهاد: أبو سفيان السني، والموسوي الشيعي. هكذا طبقنا ما تقوله الراوية في نهاية النص: (البقية عليك)، أي فسّر كما تعتقد وتفكر، فنحن فسّرنا كما نرى ونعتقد.

 

إقرأ أيضا