وقفت مع القضايا العادلة: تظاهرت في الشوارع، احتجت مع سائر الفنانين ضد الاستبداد، أيدت شعارات الفنانين ومطالبهم بحكومة وطنية ديمقراطية، وقفت مع استقلالية الجامعات الحكومية، وناصرت العمال في نضالهم من اجل تحسين ظروف حياتهم وجمعت المال رغبة منها في سبيل مساندة روحهم البطولية.
أعلنت أنها تؤمن بأن الشيوعية ستنقذ العالم من الفقر. وقبل وفاتها ببضعة أيام ساهمت بمسيرة الى جانب دييغو ريفيرا، ووقفت لأربع ساعات تحت المطر هي المقعدة في كرسيها، تضامنا مع الرئيس اليساري لحكومة غواتيمالا حينذاك، برغم منع الاطباء وتحذيراتهم لها بسبب سوء وضعها الصحي.
ولكن هل كانت فريدا كالو شيوعية حقا؟
يحاول الفلم الوثائقي الذي رافق المعرض الشامل لفريدا كالو في متحف \”آركن\” للفن المعاصر في كوبنهاغن الإجابة على هذا السؤال من ضمن مجموعة من الأسئلة ساهم في الاجابة عليها مجموعة من الفنانين وغيرهم ممن تتلمذ على يدها وعرفها عن قرب.
A family photograph from 1926 shows Frida Kahlo in full male
فريدا كانت حارة وحية حد النزق والجنون. لم تخف أفكارها ولا عواطفها. ولدت لكي تتمرد على كل ما هو تقليدي. هناك صورة عائلية في سني مراهقتها الأولى تظهر فيها بزي رجالي وشعر مسرّح ملموم إلى الوراء، يدها في جيب بنطالها بوقفة رجولية وظهر منتصب، في الوقت الذي كانت المرأة تحرص فيه على اظهار انوثتها.. وعلى هذا النحو ظهرت امها واختها في الصورة نفسها.
\”لا.. فريدا لم تكن شيوعية\” قالها أحد تلامذتها. كانت تعابير وجهه تنم عن حب عميق لهذه الغزالة الصغيرة النازفة.
كانت عاصمة المكسيك في العشرينات من القرن العشرين تعيش حياة مائجة مقبلة على جملة من التحولات بعد قيام الثورة المكسيكية، وقد انعكس ذلك في نشاطات جملة من الفنانين الذين حاولوا أن يبرّزوا صورة المكسيك الجديدة، من ضمنهم ريفيرا. من جانب آخر كان المجتمع محافظا جدا؛ ذَكِر إن كلمة ساق لا تقال مباشرة يومها، بل يقال بدلا عن ذلك الجزء الذي نسير بواسطته!
diego-rivera with Frida Kahlo
تلك الأجواء الثقافية بمجملها شكلت جزءا كبيرا من حياتها. في العشرين من عمرها أعجبت بدييغو ريفيرا. كانت شابة مشبوبة العاطفة مندفعة، لم يكن الرسم شاغلها على الاطلاق. كان دييغو ريفيرا معروفا آنذاك كرسام مكسيكي ماركسي يساري عاد توا من رحلة في أوربا متأثرا بالتكعيبية، ثم ما لبث أن غيّر اتجاهه الفني رغبة منه في تصوير حياة الناس والعمال في معاركهم اليومية من أجل نيل حقوقهم، مستثمرا في لوحاته روح الثورة في بلده والثورة الروسية أنذاك، مستفيدا من تقنيات جداريات ايطاليا.
الكثير من أصدقائها صاروا قادة في اليسار المكسيكي وجملة من الذين نعموا بشهرة وصاروا أكثر شهرة لاحقا كفنانين وكيساريين ممن يحملون روح التمرد والرغبة بالتغيير، كانوا من ضمن المحيط الذي اختلطت فيه. انتماؤها للحزب الشيوعي لفترة في أول عشرينياتها عُدّ أيضا تأثرا بصديقة مصورة لها كانت قد قدمت من إيطاليا. وجدت فريدا نفسها في المركز، وسط هذه الأجواء الصاخبة التي كسرت تقليدية المجتمع واعدة بالتحرر.
\”مثل فيل وحمامة\” هكذا شبهتهما والدتها عندما علمت بعلاقتها العاطفية بريفيرا، مشيرة الى حجمه الضخم ووجهه القبيح وعمره الذي كان يوازي ضعف عمرها. والد فريدا حذّر دييغو بدوره بأن ابنته، وكانت الأقرب له من بين أبنائه هي الشيطان بعينه، بسبب مزاجها الناري الذي عرفت به. لكنهما أعلنا عن زواجهما في العام 1929.
حادثتان كبيرتان كان من شأنهما أن يرسما مسار حياة فريدا التراجيدي، الأول هو حادث الاصطدام الذي تعرضت له ما جعلها مقعدة بقية حياتها، الثاني هو ارتباطها بدييغو ريفيرا وهي الحادثة الأفجع كما وصفتها.
الألم والحب قطبان تجاذباها كل من جانب بكل ما يحملانه من تدرجات وتحكما في حياتها. الألم نال من أنوثتها، حال دون ان تكون أمّا وحجّم من قدرتها على فعل ما تطمح اليه في حياتها، عندما فرض عليها عزلة مخيفة. أما الحب فقد جعلها رهينة تقلبات الرجل الذي أحبت. عاشت فريدا مع الرسام دييغو ريفيرا حياة مضطربة متوترة عنيفة تسودها مشاعر متطرفة. \”هل يجب أن امتلك رأس بغل كي لا أفهم ما يدور من حولي…\” كتبت له في إحدى رسائلها الموجهة إليه بإسلوبها اللاذع الصريح المعهود. كان ريفيرا مرة يتربع وسط قلبها كما رسمته في لوحاتها، ومرة يكون موضع غيرتها الشديدة مع رغبة عارمة في الانتقام منه بسبب نزواته وارتباطه عاطفيا بأختها، ما جعلها تسلك طرقا شتى لإغاظته، من ضمنها علاقاتها العاطفية والجنسية مع أصدقاء له ونساء أخريات.
Frida Khalo and Diego Rivera
حياة غريبة وكثيفة لن تتكرر: من جهة حادث قدري قطّع عمودها الفقري الى ثلاثة اوصال وهي لم تزل بنت الثامنة عشرة، عانت بسببه معظم حياتها ما حدّ من خياراتها، ومن جهة ذكائها الحاد، حبها للتفرد، توقها للتجريب وانفعالاتها الحادة ما جعلها تجنح في محاولاتها في التفوق على عوقها إلى المشاكسة والتحرش والمخالفة والسخرية القاسية من الحياة؛ أقامت علاقة مع تروتسكي، المنظّر الماركسي الذي لجأ الى المكسيك، منفاه الاخير، حين استضافه زوجها دييغو ريفيرا وأقام في جناحها الأزرق لفترة، كما أقامت علاقة على سبيل المثال مع الرسامة جاكلين لامبا زوجة بريتون، الأديب الفرنسي ومؤسس السوريالية ومع الممثلة الامريكية بوليت كودار التي كانت على علاقة مع دييغو قبل ذلك.
لكن هذه الثائرة والمتحررة جنسيا حافظت على قواها من خلال فنها، رسمت لانها كانت مقعدة لا تستطيع فعل شيء آخر وبذلك وجدت طريقا للتعبير عما يعتمل في دواخلها. لم تعنها لا سلسلة العمليات التي أجريت لها، ولا الكحول وجرعات العقاقير ولا الخشخاش من تخفيف وجعها وهي تنوء تحت ثقل الكورسيه الذي ترتديه وتكرارات التجبيس.
ظل فنها يدور في جزء كبير منه حولها هي ذاتها، ويكاد يكون موضوعها الرئيس. جسدت ذلك ضمن 53 لوحة شخصية لها بطريقتها هي. واكتسب فن البورتريت بذلك خصوصية على يديها. أصرّت عبر تلك اللوحات على أن تبقى صورتها في مخيلتنا على النحو الذي أرادته لنفسها: امرأة بزينة مكسيكية تقليدية باذخة الالوان، وجه معبرّ حاد الملامح، حواجب بولغ بكثافتها وخط شارب واضح.
معاناتها هي جزء من تقييمنا لفنها. اسلوبها التصويري المباشر أو الرمزي الطفولي جاء بسيطا جدا. وثّق تفاصيل حياتها نعم، ولكنه أبرز على الاخص النزعة الذاتية الفردية التي انعكست في فنها. ولا غرابة في ذلك امام قدر مؤلم مثل قدرها. ولكنه بالمقابل يختلف عن فن دييغو السياسي على سبيل المثال في حديثنا عن انتماء أو مناصرة للأفكار الشيوعية.
المعرض اختصر لنا المسافات ووفر لنا فرصة الاقتراب من شخصها، من روحية مجتمعها المكسيكي وتاريخه، من الحلي خاصتها وبعض من فساتينها ومقاطع مصورة تظهرها بلحمها ودمها مع شخصيات معروفة أخرى كان لها دورها في العالم. لكن المعرض لم يكن بريئا في نقله لصورتها، تماما مثلما فعل المكسيكيون والامريكيون وغيرهم. الصورة النمطية لقصة حب مجنون تكللها القلوب والورود والدموع والقلب النازف ومن ثم المقعدة الحزينة التي انقذتها والدتها بوضع مرآة لها في سقف حجرتها، هذا التبسيط الساذج ذاته! يظل السؤال يلح: هل يمكننا التخلص من تأثيرات المنظور المطروح علينا، هل اقتربنا أكثر من معركتها الخاصة في الحياة وكان لنا أن نعرّفها على طريقتنا؟
فريدا كالو أيقونة استخدمها الشيوعيون والثوريون والاشتراكيون، والحركات النسوية، والمثليات.. وأخيرا استخدمتها السينما الامريكية!
لا لم تكن شيوعية.. \”مثلما أحبت الحيوانات، والألوان الزاهية وغيرها..\” قال أحد تلامذتها!
*شاعرة وروائية عراقية مقيمة في الدنمارك