استهدافان تركيان للأراضي العراقي بشكل شبه متزامن، كشفا وفقا لمتخصصين بالشأن السياسي والأمني، عن عدم احترام أنقرة لبغداد والقرارات الدولية، فيما أشاروا إلى أن هذه الاستهدافات المستمرة تأتي للضغط على بغداد التي حركت دعوى ضد شراء أنقرة نفط إقليم كردستان بشكل غير رسمي، إضافة إلى أنها جزء من مخطط لإعادة ضم جزء من الأراضي العراقية لسلطة تركيا.
ويقول المحلل السياسي الكردي كوران قادر خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “هذه العمليات التي تحدث بين فترة وأخرى من قبل الجيش التركي أو من قبل الطيران التركي سواء من خلال صواريخ أو طائرات آلية، هي عمليات متكررة وتحدث منذ سنوات عديدة، وبالطبع غايتها ضرب أهداف حقيقية على الأرض، ومن جهة أخرى يمكن اعتبارها رسائل سياسية موجهة إلى إقليم كردستان وإلى الدولة العراقية ككل“.
ويبين قادر، أن “استمرار هذه العمليات يدل على شيء واحد، وهو أن هذه الدولة الجارة لا تعترف باحترام السيادة الدولية للعراق ولا تهمها”، لافتا إلى أن “الرسائل السياسية عبر هذه الاستهدافات المتواصلة لفترات زمنية تمتد لعشرات السنوات هي للضغط على الحكومة العراقية وحكومة كردستان في بعض الأمور الخاصة التي تخص السياسة الدولية ما بين الإقليم وتركيا أو ما بين العراق وتركيا“.
وكانت طائرات تركية قصفت يوم أمس الأحد، جبل متين في محافظة دهوك، وذلك بعد وقت قليل من قصفها منطقة “باري” شمال قضاء سنجار غربي محافظة نينوى، حيث استهدفت سيارتين تابعتين لعناصر وحدات حماية سنجار (اليبشة) الموالي لحزب العمال الكردستاني، ما أدى إلى مقتل من كان في العجلتين.
ويضيف قادر “نعلم جميعا أنه في الآونة الأخيرة هناك قضية بارزة هي الخلاف بين بغداد وأربيل حول تصدير نفط كردستان إلى تركيا، ويتحدث المطلعون والمراقبون والمحللون السياسيون من ذوي الاطلاع والخبرة، عن أن بغداد أقرب إلى الفوز بهذه القضية، وإذا فازت فأنها ستتسبب بخسارة تركيا ملايين الدولارات“.
وكانت وزارة النفط أعلنت الأسبوع الماضي، أن محكمة غرفة التجارة الدولية تنظر في دعوى التحكيم المرفوعة من قبل جمهورية العراق ضد الجمهورية التركية لمخالفتها أحكام اتفاقية خط الأنابيب العراقية التركية الموقعة في عام 1973 التي تنص على وجوب امتثال الحكومة التركية لتعليمات الجانب العراقي في ما يتعلق بحركة النفط الخام، الآتي من العراق في جميع مراكز التخزين والتصريف والمحطة النهائية.
يشار إلى أن هذه الدعوى، رفعها رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي، في المحكمة الدولية ضد تركيا، تطالبها بدفع تعويض مالي قدره 26 مليار دولار، بسبب شرائها النفط من إقليم كردستان من دون إذن من الحكومة الاتحادية، ووصلت الدعوى لمراحلها الأخيرة، لكن بعد تولي عادل عبد المهدي رئاسة الحكومة وبتدخل من زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، تم تأجيل الدعوى لمدة 5 سنوات بناء على طلب الحكومة العراقية.
من جهته، يفيد الخبير الأمني حسين الكناني، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “لدى تركيا أهدافا عسكرية في شمال العراق، ولا جديد في استهداف المناطق الحدودية أو محاولة تركيا خلق ذرائع حتى تبرر وجودها العسكري بحجة حزب العمال الكردستاني“.
ويشير الكناني إلى أن “تركيا لا تعترف بالمنظمات الدولية والأمم المتحدة، وتحاول فرض هذا الواقع على الحكومة العراقية والمجتمع الدولي، وبالتالي تقوم بإنشاء قواعد عسكرية أو شريط حدودي وتحقق أهدافها العسكرية الأمنية في شمال العراق”، مضيفا أنها “تختلق الذرائع لتنفيذ عملياتها، علما أن حزب العمال الكردستاني غير موجود في بعض المناطق التي تستهدفها، وهو في مناطق حدودية، أما تركيا فنلاحظ استهدافها مناطق الإيزيديين وبعض المدن والقرى التي لا علاقة لها بحزب العمال“.
وكان وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، قد طالب العراق مطلع الشهر الحالي، بإعلان حزب العمال الكردستاني “PKK”، تنظيما إرهابيا وأن يتخذ خطوات ملموسة ضد هذا التنظيم.
ومنذ مطلع العام الماضي، صعدت تركيا من عملياتها في العراق بشكل كبير، ونفذت العديد من عمليات الإنزال الجوي، فضلا عن إنشاء نقاط بعد دخول قواتها البرية لمناطق مختلفة من دهوك ونينوى، إضافة إلى الإعلان عن إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في الأراضي العراقية، وذلك بهدف ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وخاصة في قضاء سنجار بنينوى.
وفي تموز يوليو الماضي، قصفت القوات التركية مصيفا سياحيا في قرية برخ التابعة لقضاء زاخو بمحافظة دهوك، ما تسبب بإصابة ومقتل 31 مدنيا أغلبهم من النساء والأطفال، وسط تأكيدات شهود عيان في المنطقة بأن هذا المصيف يقع عند حدود زاخو وتحيط به نقاط القوات التركية، ولا يشهد أي نشاط إرهابي من قبل أي جماعة.
وتقدم العراق بشكوى لمجلس الأمن الدولي بشأن القصف التركي، وعقد المجلس جلسته في 26 تموز يوليو الماضي، وفيها أكد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن الأدلة من موقع الاعتداء على مصيف دهوك، والتي تضمنت شظايا مقذوفات مدفعية ثقيلة، هي ذاتها التي يستخدمها الجيش التركي، وأن هناك حالة من الغضب الشعبي العارم الذي يجتاح العراق من الجنوب إلى الشمال بسبب الاعتداء التركي.
ودعا حسين مجلس الأمن إلى إصدار قرار يلزم تركيا بسحب قواتها من العراق، مطالبا بتشكيل فريق دولي مستقل للتحقيق في هذا “العمل العدواني”، وإلزام الحكومة التركية بدفع التعويضات الناجمة عن الخسائر التي لحقت بالمدنيين العُزل.
إلى ذلك، يرى المحلل السياسي راجي نصير أن “أهداف تركيا في سوريا والعراق ليست مخفية وإنما مذكورة حتى قبل القصف، ففي كتاب (العنف الاستراتيجي) الذي ألفه أحمد داود أوغلو المنظر لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، كان يتحدث عن حق تركيا العثمانية الجديدة كما يسميها باستعادة الإمارات التابعة لها سابقا، وأولهما العراق وسوريا، وبالتالي ما يتم تنفيذه مخطط أوسع مما يتخيله البعض“.
ويضيف نصير “ربما يكون حزب العمال الكردستاني مجرد حجة، وأن تركيا هدفها الوصول إلى كل كردستان العراق وكركوك، وما يعزز هذه القضية أن إردوغان معروف بالاستهتار بالقانون الدولي، فهو يعبث مع سوريا واليونان، كما حاول أن يعبث مع روسيا، إضافة إلى الكثير من الحركات السلطانية، محاولا أن يبدو بمنظر السلطان القوي“.
ويوضح نصير أن “النقطة الأخرى التي تعزز هذه القضية هي أن موقف الحكومة العراقية ضعيف، بل وأحيانا يتهمها البعض بالتواطؤ، وما يعزز هذا الادعاء أن وزير الداخلية التركي ووزير الدفاع التركي وخبراء ومحللين أتراكا صرحوا أكثر من مرة بأن العمليات التركية في شمال العراق تتم بعلم الحكومة العراقية، وهذا يفرض على الحكومة العراقية بيان موقفها بوضوح“.
ويتابع نصير أن “الوضع الدولي العام والاستهتار الإردوغاني والضعف الحكومي العراقي، جميعها عوامل تشجع تركيا على التصعيد، وأنا شخصيا لا أعتقد ولو بنسبة واحد بالمئة أن الهدف هو حزب العمال التركي المعارض، وإنما الهدف أوسع من ذلك بكثير، وأكبر دليل على ذلك أن القاعدة التركية في بعشيقة موجودة منذ عام 2014 ولحد الآن، علما أن هذه المنطقة ليس فيها أي أحد من حزب العمال، فلماذا توضع قاعدة جوية وعسكرية ضخمة فيها؟“.
وغالبا ما يكون قضاء سنجار هو الهدف التركي المعلن، حيث يعتبر معقلا لعناصر حزب العمال الكردستاني، وهو ما دفع بالفصائل المسلحة العراقية لإرسال ألوية عسكرية إلى القضاء، وتمركزت فيه لصد أي عملية تركية محتملة داخل القضاء الذي يقع جنوب غربي نينوى، ويعد موطنا لتواجد أبناء المكون الإيزيدي في العراق.
وقد وقعت بغداد وأربيل في 9 تشرين الأول أكتوبر 2020، اتفاقا سمي بـ”التاريخي”، يقضي بحفظ الأمن في قضاء سنجار من قبل قوات الأمن الاتحادية، بالتنسيق مع قوات البيشمركة المرتبطة بإقليم كردستان، وإخراج كل الفصائل المسلحة وإنهاء وجود عناصر العمال الكردستاني “PKK”.
وكشفت “العالم الجديد” في تقرير سابق، أن رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي أبلغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائهما في أنقرة في 17 كانون الأول ديسمبر الماضي، بعجزه عن تنفيذ اتفاق بغداد-أربيل للسيطرة على سنجار وطرد عناصر حزب العمال الكردستاني منها، ومنح الضوء الأخضر لأردوغان بالدخول إلى سنجار تحت مظلة حلف الناتو، تحسبا لردود أفعال سلبية من قبل الفصائل المسلحة، في حال دخول تركيا بمفردها لسنجار، وذلك بحسب مصادر دبلوماسية كانت حاضرة للقاء الذي جرى في أنقرة، وتخللته مأدبة فاخرة على أنغام الطرب العراقي التراثي.