\”لي صومي وصلاتي ولك ليبراليتك\”: هكذا خاطب السيد رئيس الوزراء زميل إعلامي. ماذا يقصد؟ في سياق شفاهي، وفي أكثر الجُمل شيوعا بين متحاورين يحلّان خلافاتهما بالحسنى، قصد الآتي: لك دينك ولي دين!
لا أحد عاقل يعارض هذا المعنى الليبرالي أصلا. لكن التحليل العميق للجملة تخفي فكرة مضمرة هي: أنا مسلم أصلي وأصوم .. وأنت ليبرالي لا تصلي ولا تصوم!. لا أظن أن السيد رئيس الوزراء انتبه الى هذا التضمين، ولا أظنه كان خبيثا، كل ما في الأمر أنه كان يستخدم بلاغيات اللغة، وهو مستخدم جيد للغة، ولاسيما تراكيبها السجالية التي تميز ما بين المتكلم والمخاطب. إنما هذا المعنى بالذات، أي أن الليبرالي لا يصلي ولا يصوم، راسخ في ثقافة الإسلاميين جميعا: إن اللاشعور اشتغل بقوة عندما اختار المالكي أن يتكلم باسم المتدين لا باسم المسؤول الأول في الدولة!
إننا نتذكر أن السيد رئيس الوزراء تحدث مرة عن هزيمة العلمانية والماركسية والحداثة (لعله ذكر الليبرالية وأنا نسيت). كان آنذاك يتحدث عن فكر الشهيد باقر الصدر، من هنا واءم لغته مع الذاكرة الثقافية للحزب، وكانت طبيعة المناسبة جعلته يتحدث باصطلاحات قرأها المستمعون في سياق مرجعي واحد تقريبا. لكنه الآن في مناسبة أخرى استخدم فيها وجود سادة لهم اختصاصات مختلفة لتمرير معركة صامتة بدأت معالمها تتضح.
بصرف النظر عن أن الليبراليين (لا يصلون ولا يصومون) تشهير رديء وإشاعة تفندها الحقائق، إلا أن المالكي كان يقحم نفسه في وطيس مختلف، وهو الظهور بشخصية المتدين وليس رئيس الوزراء. ليس هذا من أخلاق التبسّط والأريحية، بل طريقة لمطاردة خصوم في مرجعياتهم. بالأحرى كان يطارد التيار الصدري لأنه أدرك أن الطعنات المؤثرة تأتيه منهم في هذه اللحظة التي تكاثرت فيها الأخطاء وباتت تهدد الدولة والمجتمع. لقد أراد أن ينازلهم على أرضيتهم الدينية كي يكشف تناقضاتهم. أكثر من هذا أنه دفع المنافسة السياسية الى داخل الطائفة ما دامت هذه المنافسة لم تعد مخفية، ولربما باتت انشقاقا مكشوفا.
كان ترياق الخلافات والانقسامات، وبقاء الطائفة أو الكتلة البرلمانية متماسكة، يمر عبر إثارة الخوف من الأعداء، أما الآن، والتمزق الداخلي بات أكبر، فلم يعد هناك مفر من المواجهة. فيما عدا ذلك فإن جميع التوضيحات الخاصة بالمشكلات الكبيرة في العراق، كالكهرباء والأمن، أي القضايا ذات الهيكلية الوطنية، رماها السيد المالكي بوجوه حلفائه كأنه يرمي قفازا طلبا للمبارزة.
لقد احتاج أن يكون حجاجه مع حلفائه بمراجعهم الشرعية واتفاقاتهم السياسية الأساسية. من هنا اختار إستراتيجية \”شرعية\”، لكي يثبت أن خصومه تصرفوا من خارج تعاليم المذهب وأنهم استخدموا سلطتهم للإضرار بالدولة والدستور. وهكذا نرى أن الحالة السياسية الانتخابية واصلت العمل في جلسة لا علاقة لها بالنشاط الانتخابي. هذا ما كنت قد أوضحته اكثر من مرة بشأن الطوائف التي سيّستها الانتخابات، والسياسة التي طيفتها الانتخابات. فالسياسة بالمعنى الحزبي – الطائفي تواصل النشاط وتغطي موضوعات هائلة، وتنحو منحى الابتزاز متناولة كل صغيرة وكبيرة. إن السلطة هي لب الصراع، القاسم المشترك، \”خراج الري\” ، والغنيمة الفاجرة.
لقد دقّت انتخابات الهيئات المحلية التي خسر فيها حزب المالكي عددا من المواقع ناقوس الخطر، ووضعت شكوكا على مستقبله. وأولئك الذين ربحوا بعضها بدلا من أن يستخدموا نتائجها في الإصلاح السياسي والتمسك بالقيم المدنية الحرة، اقترفوا خطأ سريعا في شروط صعبة كان فيها شعبنا يقدم انهارا من الدماء بسبب الهجمات الإرهابية، محولين أنفسهم الى شرطة أخلاقية تطبق أحكاما شرعية خارج إطار الدستور والدولة. من قام بهذا العمل حدّد قاعدة نقاش مصادرة، فهي دينية وطائفية تستخدم رمزية شهر رمضان. الغريب أن المالكي الذي من المفروض أن يتحدث باسم الدولة أبقاها على هذا المستوى، ودفعها الى العلن بلسانه، فظهر كأنه يفتي، وكأنه يقوم بمنازلة ضد حلفائه بالمشتركات. إنه لم يدافع عن الدولة والدستور بوصفه رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، بل بوصفه مفتيا شرعيا او محيلا خصمه الى الفقه الذي يسلّم بأوامر الدولة ودستورها، ولقد أكد هذا عدة مرات.
وبما أن حالة الكهرباء لا تخضع حلولها للقضايا الشرعية، فقد اعترف بجهله وجهل جماعته فيها، وكان هذا صريحا الى حد ان جميع مآخذنا على السياسة الكهربائية، والخسائر الهائلة التي دفعها العراق من أمواله، باتت تشير اليه مباشرة، وهو من يتحملها لا غير. فمن يدير سياسة يخسر فيها العراق 700 مليار وهو ما زال يعتقد انه بريء عليه أن يثبت براءته بمحاكمة من يعتقد أنهم متهمون أو غير أبرياء.
في القضايا التي لا يستطيع الدين ولا المذهب أن يعينانه، نراه يتركنا نستنتج ان شريكه عالم الذرة هو المخطئ، وفي قضايا مدنية مجتمعية يحاجج خصومه كفقيه وليس مسؤولا إداريا. هكذا يعمل رجل الايديولوجيا الذي يتحاذق ويردنا في كل حالة الى وضعية يستطيع فيها ان يتملص من مسؤولياته.
والحال أن المالكي الذي لا يسلّم بمسؤولياته الشخصية عن كل الملفات، وقد اعترف بأنه لا يفهم بالكهرباء للتملص من قضيتها، هو القائد العام للقوات المسلحة، ويحتفظ بمناصب الدفاع والمخابرات والداخلية وغيرها، لكنه لا يصرح هنا أنه لا يفهم في العسكرية، بل يسرد مغامراته في البصرة وقيادته لصولة الفرسان. أما بشأن هروب سجناء أبي غريب فهي مسؤولية الحراس. وحده صنم قابض على السلطة من يتهرب من مسؤولياته على هذا النحو المروّع. كسياسي ومسؤول لم ينتبه حتى الى الذكاء العملي الذي يمتاز به السياسيون في لحظة أزمة، وهي أن يستدعي الجميع الى تدارك الأمور، ويضع نفسه بمنزلة واحدة معهم لإنقاذ الوطن.
لقد منعه تدريبه الحزبي الضيق من تلوين نقده وتشخيصاته بتلك المبادرة، فضلا عن الكبرياء الشخصية (هل هذه أخلاق إسلامية رسالية؟). لو فعل لكان وضع كل الوزراء والمسؤولين السياسيين والإداريين والعسكريين في حرج. ليس – بالطبع – من طبيعة حرجه هو بوصفه المسؤول الأعلى في الدولة، بل حرج المتهربين من مسؤولياتهم الحقيقية عن ألف خطأ وخطأ اقترف بحق المجتمع والقوانين والدولة نتيجة أطماعهم وجهلهم وتبجحهم وعدم أمانتهم. إن المالكي المتضايق من حكومة الشراكة الوطنية مفضلا عليها حكومة أغلبية ينتقد الأولى فقط من زاوية التعطيل، في حين ان التجربة تشير الى انها حكومة الشراكة في الأخطاء والنهب المنظم والأخطاء الخطرة وانعدام الوطنية. ما الذي جعلها كذلك غير ضعف الإرادة السياسية وتخبطها ولهوها بعيدا عن القضايا الجوهرية؟ ها هي الحكومة وأجهزتها التنفيذية تعمل مكشوفة كليا، مكشوفة للمواطن العادي، ومكشوفة على نحو تشريحي لرجال الإرهاب المنظمين، جيش غير موحد، تسوده الفوضى، والأوامر المتضاربة وانعدام التنسيق، شرطة تمرر حمولات الإرهابيين، وهو – المالكي – وحده من يغطي كل هذا بغطاء لا يستر عورتها.
كنت ولا أزال ضد تحميل السيد المالكي كل الأخطاء، فهو لم يرث دولة ولا حتى سلطة بل ورث خرابا، ملكا مضاعا ومبددا، زادته ضياعا السياسة الأمريكية الإجرامية التي راح البعض ينساها. إن جماعة 2003 من جميع الفصائل والنحل تتحمل معه كامل المسؤولية في ما جرى ويجري، فهي التي كتبت دستورا مليئا بالألغام، وهي، بالتعاون مع الأمريكان، دفعتنا الى انتخابات مبكرة في ظل عدم وجود دولة، وفي ظل فراغ امني وعدم وجود تفاعل سياسي ورقابي جماهيري. لقد كانت إستراتيجية هذه الجماعة ليست بناء دولة ديمقراطية بل بناء تحصينات مضحكة، لعبة هواة أقامت بناءً فوقيا له اذرع خيالية بلا قاعدة تحتية. حتى بعد عشرة أعوام لم يجر بناء القاعدة التحتية اللهم إلا في بناء قوات مسلحة وشرطة مشكوك في انضباطها وولائها. وزارات لا تعمل، صناعة متوقفة، ريف أراضيه الزراعية تجرف، تنظيمات إدارية فاسدة. إن النظام المؤسسي في العراق مفكك وهش ويفتقر الى حزمة كاملة من القوانين الديمقراطية المنظمة التي يحفر الوضع الأمني المتردي، والنهب المنظم، تحت جروفه المتآكلة. إن المواطنين يلمسون بالتجربة انه حتى المكاسب التي يفخر بها النظام كحرية الصحافة، باتت مشكوك بها، وتفتقر الى حماية قانونية. في شروط ضعيفة كهذه وجدنا أن فرسان 2003 دفعوا مجتمعهم الى أزمة تلو الأزمة ليس لأسباب مبدئية بل بسبب ان صراعهم على النفوذ والسلطة هو من القوة بحيث بات يتجاوز اللعبة المحلية وسمح للتأثيرات الإقليمية والدولية أن تتلاعب بهم.
لا يمكن الدفاع عن التجربة السياسية منذ 2003، وكل انجازاتها السياسية حلبتها القوى التي جاءت الى السلطة واستنزفتها. ليس هذا ذنب المالكي وحده بل ذنب النظام السياسي الذي تأسس بركضة مارثونية من اجل الحصول على اكبر قضمة من الكعكة.
لا ادري من أين يأتي السيد رئيس الوزراء بالثقة لكي يتحدث عن خرائب حقيقية كما لو انه غير مسؤول عنها. إنه يضرب مثلا سيئا لأولئك المسؤولين المباشرين عن هذا الخراب والذين اعتادوا التنصل عن أدوارهم المشينة ملصقين التهم به وحده. إنه يشجعهم على الهرب من مواجهة أنفسهم ومواجهة شعبهم. مثل هذا السلوك هو الذي جعل أسوأ التواطؤات تحل محل القوانين المرعية، والكواليس المغلقة تحل محل الشفافية. كان عليه ان يخاطب الجميع كرئيس دولة وليس الفقيه الشرعي، فليس هذا اختصاصه، لأنه في هذه الحالة سيجعل من قاعدة النقاش تتصف بتركيبة متعالية تقضي فيها المراجع الدينية لا القانون ولا الجماعة الإدارية الرقابية. ولا أظن انه كرئيس دولة يريد ذلك، وإذا ما سعى اليه في (لحظة رمضانية) فعليه أن يصحح الموقف ويواجه مسؤولياته كوطني مسؤول.
إن غالبية خصوم المالكي في الدولة والبرلمان جرى من تحتهم الماء مثلما جرى من تحته، وهم متساوون في الغفلة وسوء التصرف بالأموال العامة وفقدان الأهلية المهنية. فما الذي يجعله هو يدور حول نفسه من دون هدف؟ ما الذي يمنعه من القيام بمبادرة وطنية على قاعدة نقاش تكون واحدة للجميع لوضع الأمور في نصابها، بدلا من العروض السجالية التي تثير الكآبة والمزيد من الانشقاق؟ هل يلجمه نظام سياسي أسهم بصناعته أو تلجمه عقيدته التي لم تتكيف الى الديمقراطية بعد؟
ما الذي يجعله يصبح خطرا على نفسه؟
* كاتب وصحفي عراقي