بقلم: هلا نصر الدين و جنى بركات (درج) وسناء سبعي وشايا لافلين (OCCRP)
في السابع عشر من أيلول سبتمبر الماضي، أصدر فرع من الاستخبارات العسكرية السورية رسالة عاجلة تحمل أنباء مثيرة للقلق: فوفقاً لمصدر محلي، انفجرت أجهزة بيجرز التي يستخدمها حزب الله حليف الحكومة السورية في لبنان.
ومع مرور اليوم، استمرت الرسائل في التدفق، محاولين جمع ما أمكن من المعلومات الاستخباراتية، اعتمد الضباط في الفرع أحيانا على إشاعات ومعلومات غير محدثة لمحاولة فهم الوضع.
وقد استشهدت إحدى المذكرات بتقرير يفيد بأن نفس أجهزة بيجرز كانت تستخدم في الجامعة الأمريكية في بيروت، ولكن تم سحبها قبل 10 أيام، وتكهن تقرير آخر بأن الأجهزة كانت مرتبطة بشركة موتورولا، التي قيل إنها كانت تمتلك حصة في شركة اتصالات إسرائيلية. (ولكن لم يتبين أن أياً من الأمرين صحيح).
وفي اليوم التالي، عندما انفجرت مجموعة أخرى من أجهزة اتصالات -هذه المرة لاسلكيةـ اكتسبت نبرة الرسائل طابعا جديدا من الجاذبية.
وفي مذكرة تحمل علامة “سري للغاية”، حث اللواء منذر سعد إبراهيم، رئيس “هيئة العمليات” في القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، أجهزة الاستخبارات السورية على “إبعاد كافة أجهزة الاتصال اللاسلكية عن القادة”.
وجاء في المذكرة: “إن دعت الضرورة، تكون الأجهزة اللاسلكية بعيدة عن القادة ضمن مسافة أمان. تستخدم عند الضرورة فقط”.
وقد عثر موقع “درج”، شريك مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد “OCCRP”، على هذه المراسلات التي تنشرها “العالم الجديد” بالتزامن معهما، ضمن مجموعة من الوثائق في مكاتب الفرع 235 في سوريا، المعروف باسم “فرع فلسطين”، بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في كانون الأول ديسمبر.
وتضمن الملف المكون من 137 صفحة برقيات سرية، أرسل الكثير منها فرع 227، وهو مكتب استخبارات عسكرية خاضع لعقوبات أمريكية، كان يتولى مسؤولية العاصمة دمشق.
وتُظهِر المذكرات أن أجهزة الاستخبارات السورية كانت تحاول جاهدة فهم العملية السرية التي نفذتها إسرائيل ضد حزب الله، المدعوم من إيران والذي كان حليفاً رئيسياً لنظام الأسد على مدى أكثر من عقد من الحرب الأهلية. وتُظهِر مذكرات كثيرة أخرى التنسيق الوثيق بين أجهزة استخبارات نظام الأسد وحزب الله، التي يشار إليها في الرسائل غالباً باسم “الأصدقاء” أو “الأصدقاء اللبنانيين”.
وتظهر الرسائل أن أكثر من 100 جريح، بينهم مدنيون، نُقلوا بعد الهجمات، إلى سوريا لتلقي العلاج، إذ تم وضع بروتوكولات أمنية صارمة في مستشفى عسكري كبير في دمشق، حيث تم علاج العديد من الجرحى هناك.
وقال فضل عبد الغني، مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـOCCRP: “كان التعاون بين حزب الله وقوات الأمن السورية استراتيجيًا جدا”.
وفي حين انه كان معروفاً أن نظام الأسد يتعاون بشكل وثيق مع حزب الله في جمع المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق ساحات المعارك، وإدارة مرافق الاحتجاز، فإن تفاصيل التنسيق في أعقاب هجمات أجهزة بيجرز لم تكن معروفة، على حد قوله.
وكانت هجمات أجهزة بيجرز بمثابة مقدمة لسلسلة من الهجمات الساحقة التي شنتها إسرائيل والتي أدت إلى تدمير القيادة العليا لحزب الله، وساهمت في نهاية المطاف في انهيار نظام الأسد بعد أقل من ثلاثة أشهر.
التحويلات الطبية
وبحلول الصباح الباكر من يوم 18 أيلول سبتمبر، كما تظهر المراسلات، تم نقل عشرة من أعضاء حزب الله والمدنيين الذين أصيبوا في الانفجارات إلى سوريا لتلقي العلاج. وكان هؤلاء أول من تم نقلهم من بين قائمة طويلة.
وعلى مدى اليومين التاليين، واصلت سيارات الإسعاف العبور من لبنان عبر قرية جديدة يابوس السورية، وهي قرية قريبة من الحدود، على بعد نحو 45 كيلومتراً غرب دمشق. وتظهر المراسلات أن نحو 100 جريح نُقلوا إلى داخل لبنان يومي 19 و20 سبتمبر/أيلول.
وتشير الرسائل إلى أن بعض المنقولين من لبنان كانوا من عناصر حزب الله، لكنها لم تكشف عن هوياتهم.
وتقول الرسائل إن بعض الأشخاص نُقلوا بسيارات إسعاف تابعة للدفاع المدني اللبناني، رغم أن المديرية نفت لـ«درج» انخراطها في عمليات النقل. وتُظهر المذكرات أن سيارات الإسعاف التي يديرها الهلال الأحمر العربي السوري، وكذلك مركبات من جمعية الصحة الإسلامية التابعة لحزب الله، نقلت بعض الجرحى.
وفي اتصال مع الصحافيين، قال الهلال الأحمر العربي السوري إنه نقل عدداً من الجرحى، لكن الأشخاص الذين نقلهم كانوا غير مسلحين. وأضافت المنظمة أنه تماشياً مع سياستها العامة في مساعدة الناس دون تمييز، لم يتم سؤالهم عن هوياتهم أو انتماءاتهم.
وتشير الاتصالات إلى أن نحو 120 شخصاً نُقلوا إلى سوريا بحلول الثاني والعشرين من أيلول سبتمبر، بما في ذلك طفل يبلغ من العمر تسع سنوات وآخر يبلغ من العمر 11 عاماً. كما سُجلت إصابات في العينين والصدر والأطراف والفك والوجه والبطن.
التدابير الأمنية
في منتصف الليل بين التاسع عشر والعشرين من أيلول سبتمبر، وصلت دورية من الفرع 227 إلى مستشفى تشرين العسكري في دمشق، حيث نُقل إليه العديد من الجرحى وتم وضع إجراءات أمنية مشددة.
وجاء في إحدى الرسائل: “لا تسجلوا أسماء الجرحى على الباب الرئيسي، بل في قسم الطوارئ”.
وجاء في مذكرة أخرى أن الزوار الذين يوافق عليهم حزب الله والاستخبارات السورية والسفارة الإيرانية فقط هم الذين يُسمح لهم بالدخول. واقترحت بعض البرقيات أن يتم نسخ المعلومات إلى “ضابط الاتصال” لدى “الأصدقاء”.
وفي مذكرة مؤرخة في الثاني من تشرين الأول أكتوبر، قال الفرع 227 إنه عزز وجوده الأمني في مستشفى تشرين، وقام ببحث وبتفتيش كل من يدخل المستشفى. كما سجل الفرع أسماء زوار “الأصدقاء الجرحى” بالتنسيق مع ممثليهم.
وقال جوزيف ضاهر، الباحث والأستاذ الجامعي في شؤون الشرق الأوسط، إن هذه المخاوف الأمنية مبررة تماما. فقد شنت إسرائيل هجمات متعددة على الأراضي السورية على مدار العام، و كثفت ضرباتها على حزب الله والإيرانيين داخل سوريا خلال فصل الصيف حتى حدوث اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني.
وقد تساعد هذه الأخطار في تفسير لماذا كان عدد عمليات النقل الطبي إلى سوريا صغيراً نسبياً مقارنة بعدد الجرحى في الهجمات الذي بلغ الآلاف.
وأضاف أن “بالنسبة لمسؤولي حزب الله وجنوده وغيرهم من أعضائه الذين كانوا يسعون إلى إيجاد مأوى، سوريا لم تكن امنة لهم والخطر دام موجود”.
وفي الأسابيع التي أعقبت هجمات أجهزة بيجرز، أرسلت الاستخبارات السورية رسائل عن مراقبتها الدقيقة للغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة في لبنان، بما في ذلك أعداد القتلى المبلغ عنها وأنواع الطائرات المستخدمة.
ويأتي آخر اتصال في الملفات بتاريخ 1 كانون الأول ديسمبر، مشيراً إلى نقل “شهيد” من لبنان إلى سوريا.
وبعد أسبوع واحد، تمكنت قوات المعارضة السورية من دخول دمشق، منهية بذلك أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد.
ينشر بالتزامن مع «درج» و «OCCRP»