كعادته اليومية جلس على أريكته القديمة مستلقيا وبيده الريمونت كنترول يتفقد قنواته المفضلة كأنه يمارس مهنته القديمة التي أفنى عمره فيها بتفقد جنوده وهندامهم يوميا صباحا ومساء رئيسا لعرفاء الوحدة، الاسم الذي لم يغِب عن أسماع أجيالنا المتعاقبة الستينية منها والسبعينية وحتى الثمانينية في مرحلة صعبة من الحياة كان يمر بها الشاب العراقي قبل عام 2003 كما تمر العذراء بمرحلة الشرنقة. وما إن تتطابق عقارب الساعة التاسعة من مساء كل يوم يبدأ تعداده اليومي على قنواته الإخبارية المفضلة التي قد لا يفارقها إلا القلة من الناس في العراق وبدأت يومها بأخبار عن سلسلة من التفجيرات بهجمة بربرية في العاصمة العراقية بغداد.
الحاج عمر الجبوري أبو سطم بدا محملقا بعيونه الجاحظة كصقر جارح لشاشة طالما أدمت قلوب العراقيين من منظر للإنسان مهين اعتادت عليه أعين الناس أجمعين، وبلمحة عين لمشهد التفجير وانتشال جثة لأحد الضحايا أمام الكاميرا صرخ الحاج عمر لا يا خي يا عبد الزهرة لا لا لا. فور سماع زوجته وأولاده لصرخته المدوية أحاطوا به مستفسرين عن سبب صراخه؟ فأجاب الحاج عمر بلهجة مختنقة وصوت مبحوح رأيت أخي وصديق عمري في سنوات العسكرية عبد الزهرة جبار ملطخا بدمائه جثة هامدة ترفع بحمالة الإسعاف في منطقة بغداد الجديدة. واشتغل بمخيلته ذكريات عتيقة لمرحلة عاشها مع صديق عمره عبد الزهرة طيلة عقدين من الزمان مضت، وتذكر أول يوم التقاه فيه وتعرف عليه عندما أتى منقولا إلى وحدته العسكرية وأجلسه وخفف عليه هول نار السواتر الأمامية بكسرة خبز يابس وكوب شاي اعد على نار يشوبها رائحة الموت. محمود الابن الأصغر للحاج عمر حاول جاهدا أن يخفف عن كاهل أبيه ويخرجه من موجة حزنه وسأله: هل أنت متأكد يا أبي أن الذي شاهدته على شاشة التلفاز صديقك العم عبد الزهرة؟ فأجابه أباه \”نعم متأكد يا بني حيث علمتني الأيام أن أشم رائحته قبل أن أراه واسمع طرق بسطاله القديم قبل أن يصلني والمح خفة ظله قبل أن يقف أمامي.
وعقد الحاج عمر العزم على أن يكون وفيا لصديقه ويحضر مراسم عزائه بناء على اتفاق عقده مع صديقه المتوفي قبل أكثر من عشرين عاما بان يكون كل منهما وفيا للآخر ولا يفارقه حتى ان يأخذ الله منية احدهما، ورغم تفاقم أمراضه المزمنة بين الضغط والسكر وتذبذب نبضات قلبه قرر أن يذهب إلى بغداد رفقة ابنه، محاولات يائسة من زوجته وبقية العائلة لردعه عن السفر خوفا من تدهور صحته أو الأوضاع الأمنية المتردية في العاصمة بغداد، ولكن لم يفلح الجميع وتهيأ هو وابنه محمود على عجل واستقلا سيارة أجرة في صباح اليوم التالي من كراج الموصل قاصدين العاصمة بغداد. وبعد انطلاقة السائق بدقائق حاول محمود أن يلاطف أباه ويخفف عنه حزنه العميق فقال له حدثني يا أبي عن ذكرياتك بعمي عبد الزهرة وكيف كانت حياتكما أيام زمان؟ الحاج عمر \”السنين التي عشناها في وحدتنا العسكرية بحب اخوي فيما بيننا وعطف أبوي على صغارنا واحترام لكبيرنا سننا ورتبة وكنا نتقاسم رغيف الخبز في الشدائد وكثيرا ما مرت علينا أيام لا يصل الطعام إلينا بل وحتى الماء فنعيش بزمزمية واحدة من الماء لأيام عديدة نطفئ فيها برميقات قليلة عطش الصيف الحارق ونحن بموضعنا الصغير نترقب الفرج بين أشباح الموت، وكان عمك عبد الزهرة يحاول جاهدا الترفيه عنا من خلال نكته الجميلة وروحه الفضفاضة رغم أن الموت كان يحصد العشرات من حولنا في كل يوم ولكنه كان دائما يردد ويقول هيه موته لو موتين، ولم نعرف طوال عمرنا للقومية او المذهب او العرق اي تفسير سوى اننا كلنا عراقيون ويد واحدة فقط ولا شيء سوى ذلك\”. وتابع الحاج عمر بصوت مبحوح وكلمات صادقة \”ايه يا ريت ترجع هذيج الأيام كنا نسافر من وحداتنا بقطار البصرة الى بغداد او بالعكس ولا نشعر بتعب او ملل مجموعة من الأصدقاء نعيش احبة كأخوة وعندما نصل محطة قطار بغداد باكرا ننزل مع أمتعتنا ويحاول عبد الزهرة أو غيره من الأخوة أن يستضيفونا في دورهم او ان يقدموا لنا وجبة الإفطار الشهية التي لا تعدو عن جلوس في المقاهي الشعبية او الفطور على الماشي والجلوس على كرسي من صفيح أو على الأرض لنتناول ألذ قيمر في العراق المعروف بقيمر السدة من أيدي بائعاته على أرصفة كراج العلاوي اللاتي كن يعملن بشرف لدعم أزواجهن وتربية أطفالهن فكانت بحق تلك الايام مليئة بعطر الحياة الذي فقدناه بعدها\”. وعند وصولهم لكراج العلاوي نزل الحاج عمر وابنه محمود وتوقفا ليستريحا قليلا من مشقة الطريق، وحملق الحاج عمر بشارع العلاوي وبسطياته التي بدت كلوحة رسمت ألوان طيف الشعب العراقي بين بائع وشاري وبين سائل ومجيب، ثم دخلا الى جامع السامرائي الشهير لأداء صلاة الظهر وتذكر أيامه يوم ان كان هذا الجامع مكتظا بالمصلين من المسافرين بين المحافظات العراقية نهارا او ليلا لانتظار موعد القطار او بقية خطوط النقل، وبعد أداء الصلاة خرجا واستقلا سيارة اجرة اخرى الى بغداد الجديدة موطن الخبر الذي رأى فيه الحاج عمر حادثة صديقه عبر شاشة التلفاز، وهناك حاول هو وابنه التعرف على دار صديقه المتوفي او من يدله عليه او يعرف اي شيء عنه من خلال السؤال والاستفسار، وبعد البحث في ارجائها الواسعة واسواقها العامرة ومعالمها المعروفة ومنها اسواق الصاغة. واستمرا ايضا بالبحث في شارع الداخل المشهور بالمطاعم والسينمات وتوقفا لتناول اكلة سريعة عند فالح ابو العنبة من اشهر المطاعم الشعبية ثم اكملوا بحثهم واستفسارهم عند سينما البيضاء ووصلوا الى صالون حلاقته المفضل لصاحبه الحاج جميل ابو داوود وعند دخولهم سأل الحاج عمر عن حلاقه فأجابه ابنه وليد عمي تعيش انت، مما زاد حزن ابو سطم ايضا ورغم محاولاتهم لمعرفة اي معلومة عن عبد الزهرة بكل الطرق لم يجدا من يدلهم وكانت آخر اجابة من مسؤول كراج نقل بغداد الجديدة \”أخي والله لافتات النعي التي وردتني لم اقرأ فيها اسم صاحبك\”. وفكر الحاج عمر وابنه بطريقة اخرى للاستدلال على دار صديقه، وانتقلا للسؤال عنه في المستشفيات القريبة (مستشفى العلوية والكرخ والراهبات) ولكن لم يحصلا على عنوان صديقه المفجوع. ومع مغيب الشمس استقلا سيارة اجرة الى شارع السعدون لكي يحجزان في احد الفنادق التي يقطنها زوار المحافظات والتي بدت مساء كصحراء قاحلة إلا من بعض المسافرين وبعض عمال الفنادق وتعجب الحاج عمر وقال \”ايه هذا شارع السعدون لو اني متوهم اجابه ابنه صحيح يابا احنا بشارع السعدون، الاب ابدا لم أر السعدون حزينا يوما هكذا بل كنت أراه دائما ضاحكا مستبشرا بضيوفه من كل المحافظات العراقية يتسامر بعضهم مع بعض في المقاهي الشعبية ويسأل بعضهم عن أهالي مواطنيهم من بقية المحافظات\”. وفرح الحاج عمر عندما رأى احد المقاهي القديمة للاخوة السودانيين بمنطقة البتاويين عرفت منذ ثمانينيات القرن الماضي والذين وطأت أقدامهم ارض العراق قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت وقال لابنه خذني الى ذلك المقهى لعلي أجد صديقي بجاد الذي كان يعمل فيها قبل سنين، وما ان دخلا وجلسا لشرب الشاي وتلفت الحاج عمر فرأى عددا من الاخوة السودانيين جالسين على اريكة مربعة تجمعهم هموم غربة الوطن ومضي قطار العمر بعلامات فارقة لم يعتد عليها كبياض شعرهم وتجعد وجهوهم وانحناء ظهورهم ، وبعد ان سألهم عن صاحبه بجاد أجابه احد الجالسين بأنه قد توفي قبل أكثر من خمس سنين، وترحم الحاج عمر على صيفه الآخر وزاد ذلك من ألمه وارتشف الشاي على مضض وغادرا المقهى الى فندقهم الشعبي\”.
وفي اليوم الثاني حاول الحاج عمر بصحبة ولده محمود أن يجد دار أهل صديقه عبد الزهرة والذي كان يزوره قبل سنين بمدينة الصدر، وبعد عناء كبير وسؤال كثير وصلا إلى المكان المعروف خلف شارع الفلاح الوسطي وعلما من الجيران أن دار أهل عبد الزهرة قد بيع بعد وفاة أمه وغادر بقية اخوته الى النجف بحثا عن عمل بعد ان انقطعت بهم السبل في العاصمة، ولما يئس الحاج عمر من الوقوف على قبر صديق عمره طلب من ابنه ان يأخذه الى مقبرة الكرخ ولما وصلا وقف على أطلال القبور وبدأ يقرا سورة الفاتحة ويدعو لصديقه بصوت مبحوح ودموع لا تنقطع وبعدها قال \”وداعا يا صديقي\”.
* إعلامي عراقي