كتب في موضوعات شتى، فكان مفهوم الروح ملاصقاً لأغلب عناوين كُتبه، ولك مثالاً واضحاً في كتبه: روح الثورات الفرنسية، وروح التربية، وروح الاجتماع، وروح السياسة، وروح الاشتراكية، وسيكولوجيا الجماهير، والسنن النفسية لتطور الأمم، وحياة القائق، والآراء والمعتقدات.
وأقول ـ لربما ـ يمكن أن نكتب عن مفهوم الروح عند غوستاف لوبون، لا بوصفها روحاً غيبية تنزل من عالم المثل لتحل في عالم الواقع، بل بوصفها نتاج الواقع، أو قل مثلما يقول هيجل: بجدلية المثال والواقع، ليكونا وجهين لعملة واحدة كما يُقال.
قيل عنه أنه (عالم اجتماع) وقيل عنه أنه (فيلسوف تاريخ)، ويصح القول عنه أنه مؤرخ وعالم اجتماع وفيلسوف.
وصفه البعض بالمستشرق، وتصح عليه هذه التسمية، فهو من كتب عن (حضارة بابل وآشور)، وهو من كتب عن (الحضارة المصرية القديمة)، وأتمها بكتابه (حضارة العرب).
هو طبيب، ولكنه لم يُضل أن يكون طبيباً لعلاج الأفراد، بل لعلاج الجماعات والحضارات، وهو أحد مؤسسي ما يُمكن تسميته بـ “علم نفس الجماعات“.
ما يُميز لوبون كمؤرخ وفيلسوف تاريخ ومُستشرق مُحايد ومُنصف، أنه كان دائم التذكير بفضل حضارة الشرق القديمة على اليونان، وفضل حضارة العرب على الغرب، فقد أشاد بحضارة بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة، بل وكتب عن فضل العرب وما قدموه من علوم للغرب.
لم يشغل فكر لوبون حياة الفرد وتحولاته النفسية أو السيكولوجية بقدر ما انشغل بتحولات (الحقائق) و (سيكولوجيا الجماهير) أو (روح الجماعات)، فهو يرى أن الفرد رهين (الجماعة)، ويغيب عقل الفرد داخل هذه الجماعة التي ينتمي إليها.
ما تنبه له (لوبون) هو (كاريزما القائد الجماهيري) الذي لا يشترط فيه نباهة علمية أو ثقافية أو إمتلاكه لحكمة فلسفية، بل قدرته على استنهاض همم الجماهير وتهييج عواطفهم ليكونوا كتلة واحدة.
يؤكد لوبون على غياب “الشخصية الواعية للأفراد” وسط الجماعة التي ينتمي لها الفرد ـ غالباً ـ ليجد الفرد منساقاً مع الجماعة، أو ما أسماه في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” “الجمهور النفسي” الذي يُشكل ما أطلق عليه “روح الجماهير”، ليُثبت لنا أن أياً “تكن نوعية الأفراد الذين يُشكلون هذه الجماعة، وأياً يكن نمط حياتهم…، فإن مُجرد تحولهم إلى جمهوريُزودهم بنوع من (الروح الجماعية)”، لتكتشف إختفاء الوعي الفردي، ليكون الفرد بمثابة جزء من جسد، “يشد بعضه بعضا“.
يضع (لوبون) مجموعة خصائص لسيكولوجيا الفرد المُنخرط في الجمهور أهمها:
ـ تلاشي شخصيته الواعية، وهيمنة الشخصية اللاوعية.
ـ تأثره كحال غيره من الجمهور بعدوى العطفة والتحريض.
ـ الميل لتحويل الأفكار المُحرض عليها إلى فعل وممارسة
في كل هذه الخصائص يتحول الفرد فيها إلى إنسان آلي ليغيب عقله الفردي، أو يكون رهين حركية (روح الجماعة).
حدد (لوبون) “سيكولوجيا الجماهير” بسمات أساسية:
ـ سرعة إنفعال الجماهير.
ـ سرعة تأثر الجماهير وتصديقها لأي شيء.
ـ تعصب الجماهير واستبدادها بوثوقها بحقانية مطاليبها، أو ما يُمكن تسميته بـ “هيمنة الغرائز الثورية” لأنها محكومة بغياب الوعي العقلاني الفردي.
يذهب (لوبون) إلى القول بأن: “الجماهير بحاجة إلى دين. فالعقائد السياسية والسماوية والاجتماعية لا تترسخ لديها إلا بشرط أن تكتسي دائماً الحُلّة الدينية التي تضعها بمنأى عن المنقاشة والأخذ والرد“.
ـ غياب القدرة على إطلاق حكم أخلاقي على تصرفاته، فبقدر ما فيهم من نزوع ثوري وميل للعنف والقتل والحرق، تجدهم مقبلون على التضحية والإيثار من أجل معتقداتهم الثورية.
للجماهير مطالب ينبغي على الحكومات الاستجابة لها قدر ما تستطيع، ولا يُمكن أن تُخاطب الحكومة الجماهير الثائرة أو المنتفضة بلغة الممكن والغير ممكن، فهي جماعات كما ذكرنا تُحركها المشاعر والعواطف، ولا يُمكن التأثير عليها بالوعود الفارغة وشعارات جوفاء لا فائدة تُرجى منها، لذا ينبغي أن يكون خطاب الحكومة مؤثراً بمقدار استجابتها فعلياً لكثير أو بعض من مطالب الجماهير لكسب رضاها ولو مؤقتاً.
يذكر (لوبون) أن محركات (الهياج الثوري) اعتقاد الجماهير بـ (كاريزما) شخص تعبده الجماهير وتعتقد أنه شخص خارق للعادة، لتجد أغلبها تُدين له، وتُطيع أوامره، وتعتقد بأنه يمتلك قوة خارقة، لا ينبغي لأحد مناقشته فيها. “تمنح الجماهير على حزب سياسي (تشكيلة سياسية) أو الزعيم الذي يُلهب حماستها قوة مليئة بالأسرار”.