ارتباط المُقدس باليومي الذي يتعرضُ فيه الانسان إلى المساومةِ والحيلةِ والتَملصِ والكذبِ والخداعِ وكلِّ ما من شأنهِ أن يكونَ صفة ارضية محضة، يتسبب بحرجٍ كبيرٍ للمؤسسةِ الدينية التي ﻻ ترى بدا من غضِ طرفها عن الكثير من الاخطاء التي تتعثر بها جهات ربطت نفسها قسرا بهذا المقدس، خاصة وأن المقدسَ الذي نتحدثُ عنه لمْ يرتبط بحياةِ العامة على أنه ارتباط روحي نابع من العامةِ انفسهم بشكلٍ توافقي مرضٍ لكلِ الاطراف، وإلا لرأينا أن المؤسسة الدينية ستستميتُ مدافعة عن قداسة ما تؤمن به ما لو تسربت الصفات (الارضية) اعلاه من العامة، ولرأينا الطوطم الديني يتأهبُ منتفضاً بأوامر قاسية في ما يتعلق بالتحليل والتحريم، بيد أن الأمر الأكثر مكراً وحيرة هو الارتباط الذي تم إبرامه من طرف واحد، هو طرف الجهات السياسية التي تعتقد بضرورة القيادة على نهج الخلافة الاسلامية حتى ولو لمْ تصرح بذلك علنا في بعض الأحيان، بالتالي أدى هذا الزواج بين السلطة والمقدس إلى تصنيم الخطأ واعتباره قدراً إلهياً صادراً من ذاتٍ عُليا، لتجد المؤسسة الدينية نفسها إزاء فكر سلطوي بزي ديني ﻻ يقيّم حضور المقدس إلا في حال استشعاره بتهديد مصالحه وبذلك يتراكم الخطأ الذي ﻻ يمكن تلافيه أو الكلام عنه بذات الوقت، لذا تلزم المؤسسة نفسها بالابتعاد تارة، والاقتراب للتدخل ما لو مسّ هذه الجهات خطر من جهة العامة، ذلك أن الجهة السياسية الملوّحة بجزرة الدين تغدق على المؤسسة، جاعلة من نفسها الناطق الرسمي باسم الله بين العباد، ومثل هذا أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي خاصة في الدولة العباسية وما تلاها.
هنا أستحضر المقولة التي ترى بأن التاريخ يستعيد نفسه، لكن قطعا هذه الاستعادة ﻻ يمكن لها أن تكرر نفسها حرفياً، وإلا لسمعنا قهقهة العالم بملء فمه علينا، ﻻ يهم فالمثل العربي يقول ان لم تستح فافعل ما شئت وحسبي أن استعادة التاريخ عند القادة الملوحين بطرف عمائمهم ﻻ يعيب وﻻ يدعو للخجل، ولذا اقتضى التنويه لأصدقائنا في العالم.
شهد العالم بكل أديانه ومذاهبه ومدارسه الفكرية التي تعنى بالغيبيات فشلا ذريعا على مرّ التاريخ فيما يتعلق بسلطة الدين، فالعلاقة التي بنيت بين رؤيتين: السماء التي ترى ضرورة أن يكون البشر أرضيين من جهة، والبشر الذين يرون بأنفسهم القدرة على الرجوع إلى زمن الخطيئة الأول وجذب الانسان إلى أن يكون سماويا من جهة أخرى، هذه العلاقة التي تشبه إلى حدّ كبير لعبة القط مع الفأر على الرغم من انتهائها ودحضها وغيابها من قواميس ومذكرات البلدان الأخرى، نجد انها ما زالت تحظى بجمهور ومريدين وقاعدة واسعة في مجتمعاتنا، تتجلى اليوم بصورتها الأكثر وحشية وتناقضاً لم يشهد التأريخ مثالا له من قبل، فالحكم الديني اليوم ينادي بحزم ليعيد الإنسان سماوياً، متناسياً دوره الأرضي الذي أُنيط به، مُمسكاً بطرفي نقيض ﻻ أغرب منهما في حياة البشرية، محوّلاً الدين الذي كان بالأمس القريب كهفاً روحياً وملجأً آمناً إلى وحشٍ يفتكُ بالإنسانية عرضاً وطولا، وكما أنه في الوقت الذي ﻻ يتوانى هو وبطانته من خرق الأحكام القاسية التي فرضها على العامة، مبتكراً في الوقت ذاته طرقاً تغيب عن ذهن الفرد العادي في انتهاكِ المحرمات الانسانية من سرقة وقتل واستخفاف بالمقدرات البشرية. لكن هذا لم يقفْ عائقا أبداً من أن تقول البشرية كلمتها كما هو الحال في مصر اليوم، مع اختلاف تفسيراتنا السياسية التي تقف مع أو ضد هذا الحدث، ما نريده من الأمر هو سقوط حكم المرشد والكلمة التي دوّت في مصر كلها (يسقط يسقط حكم المرشد) للوهلة الأولى تبدو هذه الكلمة مخيفة كونها مرتبطة بذهنية مردّها الدين، فسقوط المرشد يعني وبشكلٍ غبي ساذج سقوط الدين، كون المرشد حاول تقمص الدين ﻻبساً درعه الذي يقيه وحاشيته الحساب والسؤال، وعلى ما يبدو أن الاخوان – ككل المرتبطين بذهنية غيبية – لم يتمتعوا بقراءة ناضجة للواقع الحديث الذي يفرض نفسه كضرورة تاريخية من أن الشعوب باتت ﻻ تثق بدين يقف حامياً محمياً من السلطة.
وبالحديث عن الاخوان نجد أن اخوان العراق ﻻ يشبهون اخوانهم المصريين القابض كل منهما على مقاليد الحكم في بلده، فالمؤسسة الدينية المصرية (الأزهر) تقف في منتصف الطريق، والمؤسسة العسكرية تقفُ على شاخصٍ من علّ، والمؤسسة المدنية من منظمات غير حكومية ونقابية ميدانية تقفُ في الصف الشعبي، ولو قرأنا واقع كلّ واحدة من هذه المؤسسات على الطريقة العراقية سنجد التالي: المؤسسةُ الدينية الشيعية تقفُ مع، والسنية تقفُ ضد، المؤسسة العسكرية ﻻ تقف كونها بلا أرجُل، مسلوبة الطعم واللون والرائحة، وﻻ يُعرف بعدُ شكلها وهويتها، اما مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني فهي تتسابق جاهدة إلى قبضِ شيكات الدول الكبرى لتسهيل وتطوير عملها الميداني، هذا العمل الذي ﻻ يختلف عليه اثنان ما هو إﻻ حبر على ورق، أما النقابية منها فقد تم دفع ثمنها مسبقاً، كمنح الصحفيين واتحاد الادباء والفنانين وسواهم، ناهيكَ عن جهلِ أغلبها بالعمل النقابي، وهذا ليس ذنبها، بل هي عقود من غياب العمل النقابي في العراق، أضف أمراً مهماً وهو أن بعض الاحزاب (الدينية) قد اخترقت العمل النقابي جاعلة لنفسها موطأ قدم، هذه الاحزاب بالضرورة تعود إلى مربع السلطة، من اعتقاد يبدو مريباً وهو أن النقابات تأسستْ وقتَ كان العمل اليساري ناشطاً في العراق، وهو غطاء جديد في طريق أسلمة المجتمع الذي يسهل اقتياده عن طريق الدين.
على ضوء ما تقدم كله نجد أن شعار (يسقط يسقط حكم المرشد) باهض الثمن وﻻ يمكن التنبؤ بحجم الخراب الذي سيخلّفه، لكن ما يبدو ممكنا من الناحية المبدئية هو أننا ﻻ نريد للمرشد أن يسقط، ربما جلّ ما نطلبه ونريده هو أن يفي القادة بالتزاماتهم، وان يلتفت المرشد الذي هو مع، والآخر الذي هو ضدّ، أن يلتفتا إلى العملية السياسية في العراق وإلى الشعب الذي صار قاب قوسين من قوله: يسقط يسقط حكم الل…. الخ.
*كاتب وشاعر