الإنقطاع التام للكهرباء في الشهر السادس من عام 2010 سبب خروج أهالي البصرة في تظاهرة تشييع رمزي للتيار الكهربائي، وقد سقط إثر هجوم القوات المسلحة للحكومة المحلية التي كان يترأسها حزب الدعوة، شهيدان وعشرات الجرحى وهم يرددون \”بالروح بالدم نفديك يا عراق\”.
كذلك في المدينة الجنوبية الثانية، الناصرية، ايضاً سقط ثلاثة عشر مصابا إثر هجوم القوات المسلحة وانتقلت المظاهرات محافظة تلو الأخرى.
استثمر مجموعة من الشباب مناسبة يوم الحب 14 شباط 2011 لترتيب وقفة احتجاجية ومطالبة بالإصلاح في ساحة التحرير في بغداد، استلهموا في حركتهم من ثورات الربيع العربي. انتهزوا هذه الفرصة التي لا تنتمي لجهة او حزب او طائفة ليعبروا عن حبهم لبلدهم وأهلهم ومستقبلهم.
لم تأل الحكومة جهدا في قمعهم وإذلالهم ولم تترك طريق الا سلكته. ولكن الشباب تعلموا من تجربة الشعب التونسي والمصري، وحولوا وقفاتهم في كل جمعة في ساحة التحرير الى تقليد ثابت كل اسبوع بمسمى خاص. أحست الحكومة الخطر على كيانها وكانت واضعة قواتها من الجيش والشرطة في الدرجة القصوى من التأهب. ومحاولة منها لامتصاص الغضب الجماهيري المتصاعد أقالت محافظ البصرة واستقال محافظ بابل وكذلك استقال وزير الكهرباء واستقال النائب السيد محمد جعفر محمد باقر الصدر، وهو واحد من 18 نائبا دخلوا البرلمان باصواتهم. (والآخرون دخلوا بصوت القائمة).
بدأ الاستعداد للتظاهرة الكبرى يوم الجمعة 25 شباط. استنجدت الحكومة بالمرجعيات الدينية لتهدئة الشعب وروّجت كثيرا لفتاوى تحريم الخروج في التظاهرات على شاشة التلفاز.
كانت الحكومة تعد حديثة التشكيل بعد سنة كاملة من مماطلة السياسيين على تقسيم الغنائم بينهم بعد الانتخابات البرلمانية عام 2010. لذلك ومن باب الحرص على الصالح العام فضلت المرجعيات الدينية إعطاء الحكومة فرصة.
فأرسل السيد كاظم الحائري، مرجع التيار الصدري الأسبق، من مدينة قم فتاواه بتحريم الخروج في التظاهرات بشكل قاطع.
وفي نفس اليوم الذي كان فيه أبناء العراق يضربون ويهانون ويعذبون في ساحة التحرير، طلب السيد عمار الحکيم من اتباعه الخروج الى ساحة الخلاني لنصرة الشعب البحريني.
أما السيد مقتدى الصدر فطلب منح الحكومة العراقية فترة ستة اشهر فرصة لاجراء الإصلاحات المطلوبة.
والشيخ اليعقوبي حاول التهدئة.
وفي اليوم التالي للتظاهرة (26/2/2011) أصدر مكتب المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني بياناً باسمه أعلن عن تقديره لمن شارك في التظاهرات ومن لم يشارك، واعتبر عدم مشاركتهم \”تحسباً لمخاطر استغلالها من قبل ذوى المآرب الخاصة\”. وحذّر البيان \”الحكومة من مغبة الاستمرار على النهج الحالي في إدارة الدولة\” ومن ضمن ما طالب به \”إلغاء الامتيازات غير المقبولة التي منحت للنواب و… ولذوي الدرجات الخاصة\”.
وفي نفس اليوم أصدر رئيس مجلس الوزراء بياناً تعهد فيه بتنفيذ جميع مطالب التظاهرات وأمهل الوزارات ومجالس المحافظات 100 يوم لتحسين الخدمات.
أمهلت الحكومة، ومضت 100 يوم الاولى والثانية والى الآن التاسعة، ولكن ما الذي تحقق؟
طبعا لا اريد ان أقلل من قيمة المظاهرات الشعبية العامة ضد الفساد، فهي بداية صحوة الشعب وكشف حقيقة الأحزاب المتسلطة، ولكن على صعيد الوفاء بوعود 100 يوم، ما الذي تحقق منها؟
مضى ثلاثون شهرا على تلك الأيام، وساء الوضع كثيرا بسبب خروج المحتل وإيكال ما كان مناطا به لأحزاب السلطة.
فعلى الصعيد الأمني في عام 2010 كانت قوى الاحتلال تحقق انجازات أمنية حقيقية وتقتل قادة في القاعدة وتعتقل آخرين. اما اليوم فالحكومة عاجزة عن تنفيذ احكام الاعدام الصادرة بحقهم، وحتى عاجزة عن الاحتفاظ بهم داخل السجون، والشعب يساق في النهار بشكل جماعي الى الموت بالمفخخات، وبالليل بشكل فرادى بالكواتم. حتى اضطر كثير من كبار المسؤولين منذ شهرين، إلى المبيت خارج الخضراء خوفا من اقتحام القاعدة لها.
وعلى صعيد العملية السياسية كان المشهد مكوّنا من كتل علمانية وسنية وكردية وجماعات شيعية بينما اليوم اصبح اللاعب في المشهد السياسي فريق شيعي واحد.
كان للبرلمان دورا مهمشا، فقد كان يحاول القيام بدوره الرقابي من خلال استضافة مسؤول بين حين وآخر. لكن اليوم، وبسبب تجرئه على محاولة سحب الثقة من الحكومة أصبح عاجزا عن استضافة اصغر ضابط.
عيّن الوكلاء والمستشارين وكالة من دون تصويت البرلمان، وبشكل تدريجي حتى الوزارات المهمة اصبحت تدار جميعها بالوكالات.
فقدت الهيئات المستقلة استقلالها واحدة تلو الاخرى، وجرى تمدد الحكومة ـ العاجزة عن اداء اي دور ايجابي ـ على جميع مفاصل الدولة.
أما الكهرباء، وهي مشكلة العراق الاولى على صعيد الخدمات، فلم تحل مشكلتها على الرغم من صرف عشرات المليارات من الدولارات وبعد مضي عشر سنوات، أعلن السيد نوري المالكي على الشاشة قبل ايام أن المسؤولين عن الطاقة في البلاد ومنهم نائبه حسين الشهرستاني زودوه بـ\”ارقام خاطئة\” عن الطاقة الكهربائية، كاشفا في الوقت نفسه عن وجود \”غباء\” بشأن التعاقدات. وتابع \”انا شكلت لجنة وسوف اقيل اي مقصر سواء كان متعمدا ام لا.. وللاسف هناك تعمد لافشال اصلاح الكهرباء.. هذا التعمد بجهد كبير يتم\”.
وقد وصل الحال بالبلد إلى درجة من السوء، صرنا نتمنى عودة عام 2010 و2011 الأعوام الاخيرة من وجود الإحتلال.
اتمنى لو يقدم اساتذة السياسة والاجتماع والاعلاميين والمثقفين دراسة عن اسباب اخفاق تلك الحركة، كي نعتبر من تجاربنا المريرة، ولا نظل ندور في نفس الدوامة الى ان يكتب انقراضنا على أيدي أناس لا يشاركونا نفس المصير، لأن مستقبلهم مضمون على جميع الأصعدة خارج العراق.
وفي هذا الخصوص تحضرني ثلاث نقاط:
الأولى: كانت مطالبات الشعب عامة، وجزء منها كان ردة فعل على مماطلة السياسيين في تقسيم المناصب بينهم، والأهداف كانت كبيرة جدا وشاملة وتفتقر إلى التحديد. وفي تصوري أن ذلك بحد ذاته كان سببا وراء إخفاق تلك التجربة.
الثانية: الأمر الآخر أنه على الرغم من قيام الشباب الغيارى بعملية اعتصام طويلة وتحملهم اصناف الضرب والاعتقال والتعذيب وحتى الاختطاف، وقتل الإعلامي الشهيد هادي المهدي، أحد قيادات تظاهرات بغداد في شقته في ظروف غامضة، يوم 8/9/2011 لكن لم تنبثق عن تلك المظاهرات لجان شعبية تتابع الأمر.
فكأن الأمر وصل الى حد ارغام الحكومة على اعطاء وعد 100 يوم، وترك على عواهنه.
الثالثة: ما هو معيار تحقق المطالب؟ رئيس مجلس الوزراء وعد بتحسين الخدمات، ولكن ما هو المعيار لتحديد وفائه بوعده؟ ثم اذا لم يف بالوعد ما هي المرحلة اللاحقة؟ هل القيادات الدينية التي تدخلت بمساع خيرية لتهدئة الوضع هي المسؤولة؟ لم يفهم الشعب ماذا عليه ان يفعل اذا لم تتحقق وعود الحكومة؟ خاصة ان الحكومة تمتلك قدرة هائلة على خلق الأزمات وإلهاء الشعب بها وتصوير أن حل هذه الأزمات أهم من وعودها، ولا تحل كل أزمة الا بأكبر منها.
*كاتب وباحث ثابت في \”العالم الجديد\”
کي لا يعاد بث فلم (100 يوم)
2013-09-07 - دولي