أكثر الشعوب اعتزازا برغيف الخبز وماعون الرز وشوربة العدس هو الشعب العراقي، لذا من الصعوبة ان تجد ما يشبه مخزن المؤن المنزلي العراقي في بلد آخر، دائما هنالك أكياس طحين، ومواد غذائية أساسية كالرز والبقوليات والسكر والزيت والبصل والثوم وهلم جرا …
وليس من باب المبالغة القول إن وفرة هذه المواد تشكل عنصر أمان واستقرار نفسي لأرباب الأسر، خاصة من ذوي الدخل المتوسط والمسحوق للتعويض عن الامن الاخر، فعندما تتأخر الحصة \”التمويـتـية\” يظهر القلق على وجه الحجي ويعيش في تيه مزمن، ولا تأتيه البهجة، إلا على ظهر الشاحنة التي تصطف في عرض شارعنا الضيق لتلفظ حمولتها في بيت (ابو سعد) وكيل الحصص.
ولكم أجده نشيطا ومستمتعا عندما يقوم بأعمال الخزن وترقيم الأكياس والعلب حسب تاريخ إنتاجها ليتم استهلاكها على التوالي من الأقدم إلى الأحدث تجنبا لفسادها، وتعليماته بشأن ذلك صارمة. انه يعمل أفضل من وزارة التجارة التي تقف مكتوفة اليدين أمام مشكلة الأغذية منتهية الصلاحية التي تغزو السوق المحلية، لا ادري لماذا لا تتعاقد الحكومة مع الحجي، للاستفادة من خبرته في هذا المجال>!
بلا موعد، وجد رجال حيّنا الفقير أنفسهم في اجتماع طارئ عند (أبو سعد) الذي يحظى في المنطقة برضى يتفوق على شرعية نوابنا الموقرين ومحافظينا وأعضاء مجالس المحافظات كلهم، اللقاء جاء على خلفية قرار وزاري يقضي توزيع \”هدية\” للمواطنين بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك .
تحلق المجتمعون حول الوكيل الذي كان يجول بنظره على مخزنه الفارغ، ثم نشب نقاش حول ماهية الهدية؟.
احدهم تلمظ شفتيه، وتحسس معدته بيده فتنبأ بلحم عراقي احمر زائدا بامية بغدادية. نهره اخر: (يابه يا لحم يا بطيخ قول دجاج برازيلي وبرغل). ثالثهم كان اكثر هدوءا، وقد برز وجهه المستطيل الشاحب ليتحدث بنبرة اذاعية: لا لا الطقس حار اتوقع ان يوزعوا سلة متكاملة خالية من اية مواد معرضة للتلف سريعا، قد تضم معجون اسنان ايضا، فرج شفتيه فبرزت اسنانه الليمونية.
انتم تحلمون، ألا ترون المخزن خالٍ من المواد، عن اية هدية تتحدثون! قال ابو سعد.
سكن الجميع وادركوا انهم حالمون، بدأت تهبط رويدا رويدا ذرات كانت تسبح متلألئة على أشعة الشمس الساقطة من نافذة صغيرة، انفلقت من فم احدهم براكين سب وشتم قاسية لم يسلم منها حتى صندوق النقد الدولي، واتهم دول الجوار بالوقوف وراء استهداف مخزن (ابو سعد)، ولم يستبعد ان تكون إسرائيل قد دست انفها فيه.
عاد صاحب الوجه المستطيل ليطرح نظرية جديدة بناء على المستجدات الاقليمية. ربما الهدية هذه ستكون قيمة جدا اذ اتوقع ان الهدف منها الوقاية من ارتدادات الزلزال المصري الذي القى مرسي من على الكرسي … لت قهقهات ترددت طويلا.
داهم صبي الجالسين والفرحة تتطاير من عينيه لينقل البشارة: (وصلت اللوري).
اندلعت البسمة في الوجوه وبالتساوي فميزان ابو سعد لا يظلم احدا. (حجينا) الذي اعلن مخزن المؤن منطقة منكوبة قبل ايام على حلول شهر الصيام، تهلل وجه وهو يردد بالخليجي (يانا الخير يانا.(
هناك في زاوية مظلمة برز جرذيان، شبكا يديهما اعلانا عن بدء دبكة (الجوبي) ابتهجا بتجديد التعاقد مع المخزن، حيث يعيشان من \”كيس\” الشعب، اسوة بجرذان كثيرة في انحاء اخرى من البلد.
ابو سعد وحده من يعرف الحقيقة، لكنه كعادته واقع تحت تأثير الحصة. الهدية هي نصف كيلو غرام عدس.