تعتقد منظمة الصحة العالمية أن هناك 6 ملايين عراقي يعانون من امراض نفسية متباينة الحدة، اغلبها ناتجة عن الاجهاد النفسي لما بعد الصدمة، هذا الرقم يعود الى العام 2008 اي بعد عامين من التقاتل الطائفي الشرس. لكن الان وبغياب احصائية رسمية وعدم توقف العنف وتصاعد وتيرته، يُرجح ان يكون الرقم ازداد بالضرورة.
وتحتفل منظمة الصحة العالمية اليوم الخميس، باليوم العالمي للصحة النفسية، وسط اجواء غير مريحة في منطقة الشرق الاوسط، ولاسيما العراق الذي يعاني معظم سكانه من اصابات نفسية بليغة.
منظمة العفو الدولية، وصفت قبل يومين ما يجري في العراق من هجمات مؤلمة بأنه \”هجوم شامل على المدنيين يرقى الى اعتباره جريمة حرب\”.
وقتل في العراق ما بين عامي 2003 و2013 وفقا لمنظمة اميركية معنية باحصاء القتلى المدنيين في العراق نحو 125.961 الف شخص لغاية الثاني من تموز الماضي. وخلال الشهرين المنصرمين زاد ما يقارب 1900 شخصا فقط.
وتعتبر منظمة اطباء بلا حدود العالمية في تقرير موسع لها عن الصحة النفسية في العراق اطلعت عليه \”العالم الجديد\” ان \”العنف قد دمر العراق والمجتمع العراقي بالمجمل\”، مبينة ان \”عدد السكان المتضررين من وفيات العنف، جراء الإصابات أو فقدان الأحباء، أو مشاهدة أحداث العنف يزيد عن ذلك أضعافاً مضاعفة\”.
ويجد حسين الحاج نفسه مذنباً بحق طفليه. ورغم عمله الذي يدر عليه أجراً جيداً إلا إنه يُفكرُ بالهجرة.
فكثير من العراقيين يحلمون بترك البلاد جراء الوضع الامني الذي لم يتحسن الا في فترات نادرة، غير ان اجراءات الهجرة تبدو معقدة.
ولا تبعُد مدرسة الأهلية لطفلي الحاج سوى شارع واحد عن المنزل، غير إن نوبة من القلق تنتابه وزوجته يومياً قبل عودتهما، فمنطقة الشرطة الخامسة (غرب بغداد) تتعرض بشكل دائم الى هجمات مفخخة في كُل مرة تتعرض فيها العاصمة الى سلسلة تفجيرات تودي بحياة العشرات. حالات من الهلع المفاجئ تنتاب العراقيين بعد كل هجمة.
واصيبت أم عبير وهي سيدة في الخمسين من عمرها بجلطة دماغية، بعد بث احدى القنوات خبراً عاجلاً عن اقتحام مسلحين لمبنى وزارة العدل وسط بغداد منتصف آذار الماضي، فكان الشريط الاحمر مقيتاً وهو يحمل الخبر، فيما كانت الأم تعاني من انهيار عصبي نتيجة خوفها الشديد على ابنتها التي تعمل كموظفة ادارية بمقر الوزارة.
ويعرب حسين الحاج في حديث لـ\”العالم الجديد\”، عن شعوره بـ\”الندم\” لانه اقدم على الزواج في العام 2003، وانجبت زوجته طفلين هما الان في الصفوف الابتدائية الاولى، ويقول \”لو قيّض لي الان، لما اقدمت على الزواج، ليس هناك ثمة مستقبل لأطفالي في ظل هذه الفوضى الامنية، في كل مرة تكاد زوجتي تفقد عقلها\”.
وتبدي منظمة اليونيسف في العراق، بالغ قلقها من استهداف الجماعات \”الارهابية\” للاطفال في مدارسهم، في مسعى الى خلق \”نقمة\” على الحكومة وزيادة في الترهيب، ورأت المنظمة في بيان تلقت \”العالم الجديد\” نسخة منه، ان \”ذلك يعد عملاً شائناً يجسد الكراهية والاهانة لكل الاطفال في العراق\”، مشيرة الى ان \”المدارس هي مناطق سلام حيث ينبغي لكل الاطفال أن يتمتعوا باللعب والتعلم بأمان وطمأنينة\”.
وفوجئ مروان البياتي، وهو موظف في وزارة الكهرباء، بملاحظة ابدتها معلمة طفلته \”مريم\”، والتي التحقت هذا العام بالصف الثاني الابتدائي، بضرورة الاهتمام بابنته وتشجعيها على الرسم.
ويقول البياتي لـ\”العالم الجديد\”، ان \”ما احزنني حقاً هو ان معلمة مريم، كتبت على كراسة الرسم بضرورة تشجيع طفلتي وصقل موهبتها، لكنها اهملت الموضوع الذي رسمته، وكان الاحرى ان تنبهني الى خطورة ذلك\”.
مريم الطفلة ذات السبعة اعوام، قدمت رسماً صادماً لمعلمتها في احدى المدارس الابتدائية في الزعفرانية. وعلى الورقة البيضاء رسمت الفتاة الصغيرة عدداً من التلاميذ وهم مضرجون بدمائهم وممددون على الارض فيما كانت نارٌ تشتعل من سيارة مفخخة امام باب المدرسة.
وسجلت في السابع من تشرين الاول الجاري، أول هجمة لما يمكن ان يكون \”حرب المدارس\”، حين طال اعتداء مدرسة ابتدائية بقرية شيعية تركمانية في قضاء تلعفر في مدينة الموصل الساخنة خاطفا أرواح 12 تلميذا، فيما القى حارس مدرسة في قضاء المدائن شرق (بغداد) على امرأة تقوم بوضع عبوة ناسفة عند حائط مدرسة ابتدائية.
منذ 10 اعوام لا يشعر العراقيون ان حياتهم بأمان. فيما تكافح القوات الامنية الضعيفة بالقضاء على جيوب التمرد، والجماعات المسلحة، لكنها فشلت في مهمتها حتى بدت مستسلمة امام الاختراق بظل التنافر السياسي الشديد بين اقطاب السلطة في البلاد.
وتشير تقارير لوزارة الصحة العام 2010 الى ان حوالي الثلث من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية. وتؤكد ان العام 2009 شهد مراجعة 100 ألف مريض للمستشفيات والمراكز الخاصة.
وبحسب الهيئات الدولية، وإحصاءات وزارة الصحة فان عدد الأطباء النفسانيين في جنوب العراق هم ثمانية فقط، فيما تؤكد منظمة الصحة العالمية ان الحد الادنى هو وجود طبيب واحد لكل خمسة آلاف نسمة.
وتفيد المنظمة الدولية ان العام 2006 سجل اصابة ستة ملايين عراقي بامراض نفسية، من بينهم 300 ألف مريض يعانون الفُصام \”شيزوفرينيا\”.
وفي حزيران 2012، أعدّ معهد \”غالوب\” المتخصّص بدراسات الرأي العام، لائحة بالشعوب الأكثر إحباطاً. واحتل العراق موقع \”الصدارة\” متقدّماً على 148 بلداً.
وأفادت اللائحة بأن العراقيين يلازمهم شعور بالسلبية في حياتهم اليومية. وبعد شهرين أكّدت وزارة الصحة في بيان رسمي، أن عيادات الأمراض النفسية ومستشفياتها، تستقبل شهرياً 10 آلاف مريض.
وبينما يحتسي أبو علي (ويملك صندوقاً صغيرا لبيع السجائر قرب السفارة الفرنسية) شايه، يبدي امتعاضه من سماع صفارات الانذار التي تطلقها مركبات الشرطة، ويعلق في حديث مع \”العالم الجديد\”.. \”لقد تعبت كثيراً، اشعر بتعب نفسي كبير، لم اعد اطيق سماع هذه الاصوات، احيانا تنتابني نوبة تقيؤ\”.
ازاء النوبات النفسية المفزعة، والتي بالغالب تمثل جرحاً منسياً، لا يتم تداوله في وسائل الاعلام، تعرب لجنة حقوق الانسان النيابية عن \”قلق بالغ\” بما يخص \”حياة العراقيين بسبب اعمال العنف\”، منبهة الى ان \”حجم الضحايا بلغ مستوى لايمكن السكوت عليه باي حال\”.
وقال رئيس اللجنة سليم الجبوري، في كلمة بيوم السلام العالمي الاسبوع الفائت ان \”منظومة السلم المجتمعي باتت مهددة بفعل الخارجين على القانون وامراء الحرب والمحتمين بعباءة القانون\”.
ونبّه الى ان \”العراق وفقا للامم المتحدة بات البلد الاول في العالم من حيث عدد الضحايا بسبب العنف\”.
ولا يتوفر العراق على احصائيات دقيقة حول حجم الأمراض النفسية، لكن دراسات تقييمية تشير الى أضرار نفسية تضرب عميقا في المجتمع العراقي.
وبحسب السجلات الرسمية لمستشفى ابن رشد، استقبل حوالي 100 مريض يوميا في العام 2010 ، فيما سجلت مستشفى الرشاد حوالي 30 مراجعة يوميا.
وتشير التخمينات الى ان هناك نحو 200 طبيب نفسي فقط في العراق لسكان يبلغ تعدادهم اكثر من 32 مليون شخص.
وتنوه منظمة الصحة العالمية الى ان اغلب المتقدمين لدراسة الطب في العراق لا يفضلون التخصص بالطب النفسي.
وبحسب معهد واتسن للدراسات العالمية في جامعة براون الاميركية، فان العراق يملك 84 طبيباً نفسانياً، في ظل وجود نحو 22 الف طبيب بمجمل التخصصات الاخرى.
قُبيل اندلاع الاقتتال الطائفي في العراق العام 2006، اجري اول احصاء للأمراض النفسية كحصيلة تعاون بين منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة، كانت نتائجه ان نسبة الاصابات بلغت حوالي 20 بالمائة، واعتبرت نسبة \”طبيعية\” بالمعيار العالمي، لكن هذا التفاؤل بدا \”سخيفاً\” بعد اندلاع الاقتتال على مدى عامين.
ويمتلك العراق 3 مستشفيات نفسية فقط. هي مستشفى الرشاد (الشماعية) و أبن رشد ببغداد، و(سوز) في اقليم كردستان (السليمانية). والان ارتفع عدد الاطباء النفسانيين الى 200 طبيب في عموم البلاد، يعملون في 36 وحدة للطب النفسي.
وخلال العامين الماضيين، سجلت نحو 100 ألف إصابة نفسية وسلوكية جديدة.
ولم يعد العراقيون يأبهون كثيراً بمشاهد الموت اليومي، فالهجمات لم تفسح لهم وقتاً للعزاء او التقاط الانفاس، وتذكر اقربائهم او استعياب الصدمة، لذا باتوا يعانون من اعتياد المشهد وفقدان الشعور بالالم.
ويقول المحلل الاجتماعي واثق صادق لـ\”العالم الجديد\”، ان \”حالة التعايش هذه مع الموت، هي حالة وليدة لسلسلة هائلة من الانكسارات المستمرة منذ ما قبل عام 2003 حتى اليوم\”.
ويؤشر صادق، حالة مخيفة من عدم التجانس مع الازمة، بقوله ان \”مشهد الموت الدراماتيكي المفجع الذي يشهده الناس انفسهم بما يحمله من آلام وقسوة وفضاعة لا يشكل ضاغطا يدفعهم الى التمرد على هذا الواقع، على الرغم من مرور عقد من الزمن\”.
ويعزو صادق الصمت الجماعي في ظل الصدمة الى \”تعدد مرجعيات الفرد في داخل المجتمع، وبالتالي تعدد الاصوات والمواقف والافعال ازاء ما يحدث، فاصبح عنصر تشتيت وتشويش لذهن الفرد العراقي، الذي لم يعد يدرك أين يكمن موضع الخلل كي يتداركه، وبدا ان عليه ان يركن الى قسوة الاستسلام\”.
وتُعرّف الصحة النفسية بأنها حالة من العافية يمكن فيها للفرد تكريس قدراته الخاصة والتكيّف مع أنواع الإجهاد العادية والعمل بتفان وفعالية والإسهام في مجتمعه.
واقرّ مجلس النواب، قانون الصحة النفسية رقم 1 لسنة 2005، ونص على \”تأمين رعاية مناسبة للمصابين بالاضطرابات النفسية والتخفيف من معاناتهم ومعالجتهم في وحدات علاجية متخصصة تتوافر فيها الشروط الملائمة بما يضمن تنظيم مكوثهم في الوحدات العلاجية المغلقة تحت الاشراف الطبي والقضائي\”.
تزايد اعمال العنف، والاحتقان الطائفي، يعطي مؤشرات مقلقة على احتمال اندلاع اقتتال طائفي مجددا، غير ان صادق يقلل من هذا الاحتمال، منوها الى أن \”المعطيات على الارض لا تؤكد قدرة العراقيين على خوض غمار الحرب الاهلية مهما ارتفعت الاصوات (النشاز) التي تلوح بذلك هنا او هناك\”.