قد تكون القناصة “سمية” وعدد من الانتحاريين، آخر من تبقى للصمود في الفلوجة، بعد مرور أكثر من عامٍ على حصارها، في الوقت الذي تتحشد فيه قواتٌ عراقيةٌ كبيرة حول المدينة، رغم وجود فيتو خارجي يعرقل تحريرها، قيل إن الأردن قد بعثه الى حكومة بغداد بطلب من قطر والسعودية مع تأييد أمريكي.
وعلى مشارف الفلوجة يبدو “لواء أنصار المرجعية” مستعداً لاقتحام المدينة، وهو قوة من الحشد الشعبي مدعومة من مرجعية النجف، يقودها السيد حميد الياسري – وكيل السيد السيستاني في مدينة الرميثة جنوبي العراق – وهو رجل دين معتدل، في الثلاثينيات من عمره، ينتمي الى قبيلة عربية لها امتدادات في جنوب العراق، وترتبط بعلاقات تاريخية مع عشائر الفلوجة منذ احداث الكفاح المشترك ضد الاحتلال الإنكليزي عام 1920.
يقول كرار ناصر، وهو متطوع في الحشد الشعبي “تفصلنا عن أول ساتر ترابي مع داعش مسافة 6 كيلومترات فقط، وهي مسافة تسمح لنا بسماع اتصالاته من خلال اجهزة اللاسلكي القريبة المدى”.
ناصر الذي يعمل مع مجموعة متطوعين يسمون أنفسهم “فوج شباب النجف” ، يقول، إن “التَّـنَصّت على اتصالات داعش يكشف عن خلو المدينة من السكان تقريباً، وأن المتواجدين فيها يقتصرون على مجموعة من الانتحاريين والانتحاريات، أبرزهم القناصة “سمية”.
وبث التنظيم عبر مواقعه الالكترونية، في أوقات سابقة، بروباغندا خاصة حول “سمية”، وقدمها للجمهور على أنها “بطلة” جراء تمكنها من قتل عشرات الجنود العراقيين بواسطة سلاح قناص.
المتابعات الصحفية تكشف عن بقاء قرابة 400 مقاتل من داعش يتحصنون داخل المدينة، يشكل العراقيون نسبة 80% منهم، وهم من أشد المقاتلين في صفوف التنظيم، وبعضهم كان قد تدرب على يد الزعيم السابق للقاعدة في العراق “أبو مصعب الزرقاوي” (قتل 2006)، وهم مستعدون للموت بشكل جماعي دون تسليم المدينة للقوات العراقية.
ويظهر مقاتلو الفلوجة بشكل محدود من خلال مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاشتاغ “ولاية الفلوجة”، أو عبر نشر بعض النشاطات في صحيفة “النبأ” الورقية، وقد عثر جنود عراقيون على نسخ من الصحيفة كان مقاتلوا داعش قد تَرَكوها قرب خطوط التماس في منطقة “الگرمة” بعد انسحابهم.
ويُقدّر عدد سكان الفلوجة قبل سقوط نظام صدام حسين بـ 500 الف نسمة، إلا أنهم هاجروا على دفعات جراء اندلاع ثلاث حروب مدمرة، قادتها القوات الامريكية، اعتمدت في إحداها خطة “الارض المحروقة”، مما تسبب بتدمير 90% من البنى التحتية، وسط شكوك باستخدام أسلحة محرمة.
يقول حامد الدليمي وهو من سكان مدينة الفلوجة، إن “الأطفال المولودين في السنوات الاخيرة ظهرت عليهم تشوهات وعيوب خلقية عديدة”، ويؤكد الدليمي المقيم في الأردن حالياً، أن بيئة الفلوجة “ملوّثة وتحتوي على مواد مُسرْطنة، جعلت سكان المدينة لا يفكرون بالعودة اليها في وقت قريب”.
ونتيجةً لتلك الإوضاع، سعى غالبية سكان الفلوجة الى الإبتعاد عن مسلسل العنف والإرهاب، وتأسيس حياة جديدة في مدن اخرى داخل العراق وخارجه، بعد حصولهم على تعويضات مالية من الإدارة الامريكية والعراقية على حد سواء.
وقد فشلت جميع جهود الحكومات العراقية المتعاقبة في بسط الأمن داخل الفلوجة، بما فيها جهود حكومة أياد علاوي – الشيعي العلماني المعتدل – القريب من الأكراد والسنة العرب والبعثيين، والحليف لتركيا والسعودية.
الفلوجة صارت توصف بـ”المُقدَّسة” منذ عام 2003 بعد أن أسقط مسلحون من داخل المدينة مروحية شينوك أمريكية ما أدى إلى مقتل 16 جندي أمريكي، فيما كانت الفلوجة خلال سنوات الثمانينات توصف بـ”مدينة القمار”، وفي الستينات كانت تعد بمثابة عاصمة للحرس القومي، وهي مليشيات علمانية قادت انقلاباً على السلطة في عام 1963.
وشهدت المدينة أوائل التسعينيات، تغيرات ثقافية كبيرة، بعد تبني نظام صدام حسين لحملة إيمانية، سمحت بانتشار أفكار “السلفية الوهابية” على نحو واسع بين أوساط الشباب، وشجعت على بناء المراكز الدينية، الأمر الذي استغله آنذاك، كبار القادة البعثيين والضباط، لتوسيع دائرة أملاكهم ونفوذهم من خلال بناء المساجد، بعد أن وفرت الدولة قروضاً ميسرة، وقطع أراضٍ مجانية، لمن يسعى لبناء مسجد.
وتشكل المساجد في الفلوجة اليوم جزءاً من البنية العسكرية لداعش، حيث تستخدم بعض المساجد كقواعد للصواريخ ومنصات لمقاومة الطائرات ومخازن للاعتدة، بحسب صور بثها التنظيم عبر الإنترنيت.
الخبير في شؤون الجماعات الارهابية المسلحة الدكتور هشام الهاشمي يقول إن “داعش لا يرى قدسية دينية للفلوجة، كونه لا يؤمن بهكذا مقدسات، ولكنه يعتبرها ذات بعد إعلامي، ومصدراً للضغط السياسي والحصول على الاموال من الخارج”. ويضيف الهاشمي، إن “تنظيمات البعث وجماعة الضاري والحزب الإسلامي، يستخدمون قضية الفلوجة لكسب التعاطف السني العالمي، والذي يعد مصدراً للاموال والمنح، من خلال تبرعات الجمعيات الإسلامية الخيرية في الكويت والسعودية وقطر”.
ويتعرض اقتصاد “دولة داعش” مؤخراً الى تراجع كبير جراء قيام الطائرات الروسية بقطع تجارة النفط المهرب، فيما لا تزال موارد اخرى يعتمد عليها التنظيم مستمرة، منها الدعم الخارجي وتهريب الآثار، والضرائب المحلية والأتاوات.
وكانت الحكومة العراقية قد فقدت السيطرة على الفلوجة قبل ثلاثة أشهر من قيام زعيم داعش أبو بكر البغدادي وجنوده باحتلال الموصل، ما يجعلها أول مدينة تختار الإرهاب دون مقاومة، وترفع علم “داعش” داخل الأراضي العراقية.
وكادت قوات الحشد الشعبي، مدعومة بوحدات الجيش العراقي وألوية من الشرطة الاتحادية، أن تحرر الفلوجة استكمالاً لعمليات “عاشوراء” خلال تشرين الأول أكتوبر 2014، التي قادت الى تحرير “جرف الصخر” إلا أن المواقف السياسية في بغداد حالت دون تقدم القوات بعد اكتمال تحرير “ولاية جنوب بغداد”.
ويُعد تحرير “جرف الصخر” أول ردٍ عسكري عراقي، وبداية لسلسلة خسارات داعش في حزام بغداد، ومن ثم في ديالى وصلاح الدين.
قادة في كتائب حزب الله – العراق، يعتبرون تردد بغداد في عدم حسم ملف الفلوجة، منذ وقت مبكّر، “تلبية لضغوطٍ امريكية بالدرجة الأساس”، لأن تحرير الفلوجة، حسب تصوراتهم، سيطيح بمخطط لتقسيم العراق، والذي تصر واشنطن على تحقيقه”.
وبحسب قيادي في الكتائب يتحفظ على كشف اسمه، يقول، إن “الحشد يستطيع حسم ملف الفلوجة والرمادي بسرعة، لكنه يخشى كشف ظهره أمام الطائرات الامريكية”.
وكان البنتاغون قد أعلن بعد تشكيل التحالف الدولي “63” أن طائراته لن توفر غطاءً لقطعات الحشد الشعبي اثناء قتالها مع داعش، ما زاد من توترات الحرب، وعزز من حالة عدم الثقة، خصوصاً بعد قيام التحالف بتوجيه ضربتين بالخطأ للقوات العراقية، جرى التأكد من الأولى، والتي وقعت قبل ستة أشهر في صلاح الدين، وتم الإعتراف بالثانية ببيان رسمي أصدره التحالف، وتضمن اعتذاراً ووعوداً بإجراء تحقيق، وهي الضربة التي وقعت قرب الفلوجة، يوم السبت الماضي.
وترفض أبرز تشكيلات الحشد الشعبي العمل مع القوات الامريكية، خصوصاً فصائل المقاومة الاسلامية (الكتائب، بدر، العصائب)، في حين تشدد الكتائب من موقفها اكثر تجاه الولايات المتحدة، وتقول على الدوام إن امريكا “عدو” بالنسبة لها.
المختصون بالشأن العسكري يَرون أهمية إعطاء معركة تحرير الفلوجة أولوية، كونها تبعد مسافة 60 كيلومتراً فقط شمال غرب بغداد، ما يجعلها أقرب نقطة تواجد لـ(داعش) مع العاصمة، وهي اكثر أهمية من تحرير الرمادي والموصل، إلا أن الحكومة العراقية لم توضح سبب ترددها الدائم تجاه تحرير الفلوجة، رغم تمكن قواتها المشتركة من تحقيق عدة انتصارات كبيرة، كان اخرها الانتصار الصعب في بيجي، الامر الذي يعزز في الاذهان وجود “الفيتو”.
وتبدو مرجعية النجف أكثر حماسةً من بغداد لحسم تحرير الأجزاء المتبقية تحت سيطرة (داعش)، من خلال دعمها لحشد أنصار المرجعية، وتعبئة الشارع بشكل مستمر للدفاع وتقديم المزيد من البسالة في القتال.
وقد مرر الشيخ عبد الهادي الكربلائي، الجمعة الماضية، رسائل الى مختلف القوى والأطراف العراقية، دعاهم من خلالها الى “الابتعاد عن بعض المخططات المحلية أو الإقليمية أو الدولية، التي تهدف إلى تقسيم البلد وتحويله إلى دويلات متناحرة”.
وأكد ممثل السيد السيستاني، أن “الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية تلاحظ في الأساس منافعها ومصالحها وهي لا تتطابق بالضرورة مع المصلحة العراقية”، مطالباً الجميع “بوضع ذلك في الحسبان”.
ومع إعلان وزارة الدفاع العراقية “الإنذار الأخير” مساء الأحد، لتحرير مركز مدينة الرمادي عبر هجوم كاسح بعد “72 ساعة”، ستكون “الفلوجة” التي توصف بـ”رأس الأفعى”، أشبه بالورم الخبيث داخل جسد المناطق المحررة.