الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مفكر عراقيّ متخصص في الدراسات الدينية والفكر الدينيّ، وهو شخصية تتمتع بطراز رفيع من السلوك الإنسانيّ. وإنّ مؤلفاته لا غنى عنها لكل من يريد أنْ يدرس فلسفة الدين، فكتبه توفّرُ مقاربةً لابدّ منها لكل طالب وباحث في مسألة تحديث التفكير الدينيّ. وقد أراد أنْ يكون كتابه: الدين والظمأ الأنطولوجي، ضمن محاولات التحديث التي تعيد فحص العلاقة الملتبسة بين الإنسان والدين من منظور ذاتيّ صرف. فهذه الطريقة تحاول تكوين مقاربة للعالَـم والإنسان انطلاقاً من الذات، فقد أراد الرفاعيّ، في هذا الكتاب، أنْ ينظر إلى مسألة الدين والإيمان وإصلاح العلاقة بين الفرد والدين نظرةً ذاتية صرفة. وهذا مقترب يعبّر عن طريقة الرفاعي في معالجة المسائل المتعلقة في التفكير الدينيّ الحديث. والكتاب يجمع بين التأملات المصوغة صياغة الشذرات المضمومة إلى بعضها، وبين السيرة الذاتية، والبحث الأكاديميّ، والحوار الشخصي. ومن أجل تغليب نظرته المثالية للدين، فإنّ إرواء الظمأ الوجوديّ لا يتحقق عنده إلا من خلال الدين نفسه، مُغيِّباً في ذلك المنابع الأخرى للإرواء كالفن والأدب وغيرها من الممارسات الروحية. فهو يعتقد أنّ الدين وحده القادر على رسم “صورة ممتدة رحبة للحياة. إذ أن تمديد الحياة وتخليدها، وإشباع توق البشر للتكامل والأبدية، كلها خارج حدود الفن، فهي ليست من وعوده”. وإذا أردنا أنْ نَعْقدَ مقارنة بين رسم الدين ورسم الفن، فإنّ الفارق يتكشّفُ من خلال صورتين مختلفتين تماماً، فرسم الدين إنما هو رسم قسريّ وإجباريّ، وشكليّ ومثاليّ، وهو يمنح الدين قوة التأثير الإيديولوجيّ، فيتلاعب بالخطابات على نحو يؤثر تأثيراً حاسماً في الأفراد وأنماط حياتهم. بخلاف رسم الفن، الذي يرسم أنماط الحياة وصورها وأشكالها، انطلاقاً من العصب الحيويّ المتحرك في لحظة توتر الحياة والفرد، فيرسم الجوهر الإنسانيّ متماهياً بالجوهر الجماليّ. يرسم الحياة في صورها الواقعية التي قد ينفر منها الدين نفوراً متعالياً. واعتقدَ غير واحد من الـمُنظِّرين والفلاسفة أنّ الفن الحقيقيّ هو الذي يلتزم بتصوير هذا الواقع، ويقف مع إنسان هذا الواقع، ويعبّر عن لغته ومواقفه وقيمه. لكن الدين، له قيم بعيدة جداً عن هذا الواقع، وهي تترفع عنه على النحو الذي يوسّع الفجوة بينه وبين الإنسان. لقد نشأ الدين والثقافة من منبع واحد في حياة الإنسان. وهما نشاطان من أنشطة الإنسان في طريق الوصول إلى الحقيقة. ففي الوقت الذي اتجه فيه الدين إلى تكوين معارفه استناداً إلى الحَدْس، فإنّ الثقافة اتجهتْ إلى تكوين معارفها استناداً إلى العقل. والمعنى الأعمق للدين، أوسع من أنْ يُحَدَّ بالأديان المعروفة ذات الرسالات النبوية، وإنما هو مفهوم يستوعب كلّ النشاطات والطقوس والشعائر، سواء أكانت فردية أو جماعية، التي تنحو منحى ميتافيزيقياً. وقد التقى الدين بالثقافة في أنهما يعبّران عن نشاطات روحية مشحونة بالمعاني الوجدانية. لقد أرادت الثقافة أنْ تكون سجلاً للنشاطات الروحية الجمالية في الحياة الواقعية للإنسان، على حين اضطلع الدين بمهمة الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية التي بقيتْ مجهولة بالنسبة للعقل الإنساني. لكنّ تلك الإجابات، افتقرتْ إلى المنطق العقلانيّ وإلى الاختبار العلميّ، واستندتْ في الإجابة إلى التفسيرات الميتافيزيقية، وإلى ما يسمى لدى المتصوفة: العلم اللدنيّ، فمصادر العلم في الدين لم تكن مصادر مستقلة عن الغيب، بخلاف الثقافة التي مصادر العلم عندها هي مصادر جرى التثبت منها واقعياً. واتُّخِذَ الدين في مراحل متأخرة؛ بسبب المحن التي مرتْ بها البشرية، مخلّصاً للإنسان من هذا العناء الأبديّ. فالدين مقوّم من مقومات الكينونة وضرورة روحية من ضرورات الوجود، أو ما يسميه عبد الجبار الرفاعي: الظمأ الانطولوجيّ. لكنّ هذا يصدق على نوع معيّن من المجتمعات، حدّد علماء الاجتماع والفلاسفة خصائصها بدقة متناهية، ولم يكن بشكل مطلق لدى جميع المجتمعات. وقد طرح الدين أسئلةً معقدة أمام الفكر البشري ساهمت في تحفيز العقل الإنسانيّ على إنتاج الأفكار والنظريات. نعم، الدين أكبر طارح للأسئلة، لكنّ إجاباته ساذجة، ولا تقارن بما أنتجه العقل والعلم من إجابات عميقة، وأكثر واقعية من مسائل الإنسان المعقدة. وإذا ما كان الإنسان قد دخل في مواجهة مع القيم الدينية، فإنه كان أكثر انسجاماً مع الثقافة، لأنّ الدين كان يسلك طريق الفَرْض والقسوة ومعارضة الحياة الدنيا التي انغمس فيها الإنسان ومعارضة انغماسه في الملذات، على حين كانت الثقافة أكثر صداقة للإنسان لأنها ساعدته على تمثّل التجربة الجمالية في الحياة والفن، وكانتْ وسيلته في الدفاع عن وجوده وحياته وملذاته وحريته الفكرية والسلوكية.
لقد أراد الدين أنْ ينظم التجربة الأخلاقية، فالأخلاق ليستْ نسبية في مفهوم الدين، وليست مكتسبة اجتماعياً، بل هي مجموعة من القيم المثالية والمطلقة المفروضة. وبسبب الغلو في هذه المثالية، حدث التصادم بين الدين والإنسان. إنه التصادم بين قيم متعالية ومطلقة معلّقة بحبال قوية إلى السماء، وقيم واقعية مشدودة بحبال قوية إلى الأرض. لم يستطع الدين، عبر تاريخه، أنْ يتغلب على المعضلة العقلية، وظلّ يتصادم بشكل مستمر مع العقل والعلم؛ لأنه يعتقد بأنّ العقل والعلم لكي يصلا إلى غايتهما لابدّ أنْ يتجاوزا على بعض القيم الدينية، وهذا من المحظورات التي لا تقتضي حتى الحلّ الوسط. فتفسير الدين للعالم، لا يختلف في شيء عن التفسير الشعري للعالم، مع اختلاف أنّ الشعر لا يقتضي الاعتقاد الصارم، لكنّ الدين لا يتنازل عن مطلب الاعتقاد. فجوهر الشعر هو جوهر جماليّ صرف وليس جوهراً غائياً، بمعنى أنّ الجمال هو طريق الخير، على حين أنّ جوهر الدين هو جوهر غائيّ يتخذ من الإلزام طريقاً للحقيقة المطلقة. ومن هنا، فإنّ فكرة الرفاعي بأنّ الدين يفسر لنا “ألغاز هذا العالم الذي تسوده الالغاز، وكل ما هو غير مفهوم، فما هو غير مفهوم يجعله الدين مفهوماً، وما لا معنى له يجترح الدين له معنى” هي فكرة تبدو ممكنة في نطاق التفسير الميتافيزيقيّ والتفسير اللدْنيّ. فهذا التفسير ممكن في حدود اللامعقول، كما في نظريات النشوء، فهذه التفسيرات تتعارض مقدماتها ونتائجها كلياً مع الفرضيات العلمية. ويبقى التفسير الديني للعالم، مجرّد توهمات صادرة من عقول غير متحررة من هيمنة القوى الميتافيزيقية. وهو ما يجعل تفسيرات الدين تتعارض مع الواقع. ويرى الدكتور الرفاعي أيضاً أنّ: “الإنسان يبحث عما يتجاوز الوقوف عند سطوح الأشياء، والاكتفاء بظواهرها، ومفهوم أعراضها الحسية، هو يفتش على الدوام عما هو أبعد مدى من المعنى البسيط. إنه في توق لاكتشاف “معنى المعنى”. في رحلته مع الدين وبالدين يمكنه بلوغ (معنى المعنى) ذلك أن الدين يمتلك جهازاً تفسيرياً يسمح بتعدد التأويلات وتوالدها، فكما أنّ الوجود لا متناه، فإنّ الكائن البشري بطبيعته لا يكف عن ملاحقة التفسيرات والتأويلات اللامتناهية أيضاً، كي يعزز ذلك شعورَه بأنه ليس متناهياً”. إنّ معنى المعنى الذي يكتشفه الدين، هو مجرد تأويلات حدسية مسرفة في ذاتيتها، ولو قارنا الاكتشاف الذي يقوم به العلم والتجربة والوسائل المادية الأخرى التي هتكت أسرار العالم وبلغت معنى معناه، لوضعنا أيدينا على درجة التباين الهائلة بين الاثنين. فالدين ينطلق من مبدأ تقديم الإيمان على العقل، وعمل الإيمان قطعيّ الاعتقاد كما هو معروف، بخلاف العلم والعقل اللذين لا يؤمنان بالمعتقدات القطعية، وينطلقان من إثبات الحقائق من خلال إخضاع الظواهر للتجربة والملاحظة والاختبار المحسوس. إنّ الاختلاف، يكمن في طريقة التفسير وتحديد “معنى المعنى” فما يقرره الدين بالتأويل والتفسير، ينطلق من قبليات تؤدي بالضرورة إلى تطابق المقدمات والنتائج. فالدين فسّر، مثلاً، النشأة والتكوين (الخَلْق) فقرر ما كان يرغب في تقريره هو لا كما تقرره الحقيقة. وفي مقابل ذلك، فسر العلمُ النشأة والتكوين فتوصل إلى حقائق جرى التثبت منها مادياً وحسياً. فالفرق يكمن، إذن، في أنّ العلم يعتبر المادة جزءاً من حقيقة هذا الكون، بخلاف الدين الذي يتجاهل ذلك فلا يؤمن بالحقائق الفيزيقية. وهذا اختلاف كبير في الرؤية التي ينطلق منها الدين والعلم. يقول الدكتور الرفاعي: “يتكرر التساؤل لدى الباحثين والمهتمين: ما الذي يسوق الشباب في الغرب وغيره، ممن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشية عبثية، تتلذذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحارية؟ الشباب يتساقطون في ولائم الذبح، ويتلذذون بالدم المسفوح (…) بسبب ما يعانون من ظمأ أنطولوجي للمقدس”. إنّ هذا السلوك الإجراميّ لعدد من الشباب، يكشف عن مجموعة من العوامل المادية التي دفعتهم لهذا السلوك، منها البطالة والفقر وعدم الحصول على التعليم، والشعور بالذنب الذي تكرسه نصوص التحريم وفتاواه، هذا بالنسبة للشباب في البلدان العربية والإسلامية، أما الشباب الذين يعيشون في أوروبا فإنّ الشعور بالنقص والغيرة الحضارية من الأوروبي المنسجم مع ذاته وتقاليده وقيمه، والبطالة تدفع هؤلاء الشباب للانخراط في هذه الجماعات الكريمة في المال ووعود الخلاص من الذنوب، فأكثر هؤلاء المنخرطين كانوا قد مارسوا الرذائل قبل انخراطهم. ويؤكد هذا الانضمام الأعمى للحركات الإرهابية، طبيعة الخطاب الديني القادر على إغواء النفوس وتعطيل العقول من خلال استثارة الجوانب الوجدانية في النفس. وعبارة الرفاعي التي جعلت “الظمأ الأنطولوجي” هو السبب وراء انضمام الشباب للمنظمات الإرهابية، تصحُّ لو كان هؤلاء من القديسين الصادقي الإيمان والطاهري النية. لكنهم، في الحقيقة، مجرد مرضى مهووسين بالإجرام. الظمأ الأنطولوجي للدين، كان عبر التاريخ يتمثل في شخصيات ذابت محبةً في الله، وأظمأها الشوق إليه، كما لدى الأنبياء والمتصوفة والقديسين. ويبدو أنّ تحويل الدين من قيمة أنطولوجية صرفة إلى قيمة إيديولوجية، هو السبب الذي خفّض الطاقة المقدسة في الدين. وهذا التحويل، هو الذي أوجد الهوس الديني واستثماره من قبل الجماعات المتطرفة.