من علامات الفكر السكوني أنه يجيب على أسئلة معلومة سلفاً! وفقاُ للصور التي كوّنها عن نفسه. يحاول العقل البشري تنشئة صور مُقفَلة بإحكام عن طبيعة الأفكار التي ينتجها, ولمجرد نشوء تلك الأفكار تغدو اليقينيات أرسخ من الجبال, فرقيب الأفكار وشرطيها دائما ما يقذف أحكامه المسبقة. إن أبسط ما تقدمه هذه الوثوقيات الزائفة هو الهروب من المشاكل (من يحب المشاكل؟!), فالهروب ضمانة عقلية لذيذة جداً, ذلك إنها ستؤمّن دفاعات الفكر من أي إشكالية جدّية تخلق معنىً للحياة.
وتستمر نعمة التكرار والاجترار إلى مالا نهاية، وبذلك يمكن القول إن هناك مفكرا حسب الطلب, مفكر لا يخترق صور الفكر الوثوقية, ولا يثير إشكاليات راهنة, ويفكر على طريقة “ماينبغي أن يكون” والهروب ممّا “هو كائن”. ولعل فضيلة التفكير لا تتمتع بعدوى واسعة الانتشار مقارنةً بالقدرة التي تتمتع بها عدوى السكون, وهذه الأخيرة ستؤمّن لنا عبور كل أشكال النبذ والإقصاء, وتوفّر قدراً مقبولاً من الجماعات التي يغلب عليها طابع الوشائج الحميمة, بعيداً عن تلك النزعة الشكيّة الموجعة!.
وللعنصرية أشكال شتى, وحصة الذهن من هذه الأشكال العنصرية تتعدى الأنماط المألوفة؛ فالقبول, والنفور, واللامبالاة, أحكام ذهنية لا تستند على وجهة حق, وإنما ترتكز على جذر الحكم المسبق, وخزّان الذاكرة الذي يمرر قيمه الخاصة, وأحكامه المعيارية, دون الالتفات إلى لحظة شك واحدة. فهو يسجل إمضاءه استناداً على مفعول الرغبة, وليس على الحقيقة كما هي. وبتعبير أدق, أنه يرى الأشياء كما يشتهي أن تكون, لا كما هي بطبيعتها الخالية من المعيار والقيمة المسبقة.
إن من صفات الذهن الكسول الذي اتخذ من التكرار وسيلةً للتضامن مع المعتاد والمألوف, البحث عن دائرة مغلقة على نفسها, وفي الدوائر المغلقة طقوس تعبدية, وأشكال من عبادة المألوف والجاهز تنفرد بطقوس احتفالية, ونوع من العبادة التطهيرية لكل أنماط الشك والريبة!.
الذهن الذي يعيد تدوير نفسه, لهو ذهن مكافح شرس, ومقاوم لحركة التغيير, سرعان ما يتحول إلى أداة خطرة, يمكنّه أن يعبر عن رفضه للحياة, بأشكال تعبيرية لا تجد لها مكاناً بين قيم العدالة والتسامح والاعتراف بالآخر, ذلك لأن قيم الحياة دائماً ما تمنحنا مكاناً جديداً وطرياً للفكر والحياة, وما يمنحنا إياه ذلك الذهن المضطرب الزائف, المزيد من الموت والدمار والألم.