المشهد السياسي العراقي طوال نصف القرن الأخير كان ساخنا. طبعا، في الغالب، كانت الانقلابات العسكرية هي اللاعب الأول في رسم خرائطه السياسية.
كانت المشاريع الفكرية المحركة للحركات السياسية آنذاك أيديولوجيات تتسم بعدم الوضوح في معالمها ومراحلها وكيفية تطبيقها والمطلوب منها.
فدعاة القومية، لم تتضح مطالباتهم ولا برنامجهم لتحقيقها. غير أنهم يرفعون شعارات قد تكون صحيحة وجميلة.
كذلك اليساريون، كانت أيديولوجياتهم وشعاراتهم الجميلة والإنسانية، مجهولة التحقق، والأهم من ذلك، لم يكن لديهم معيار يتبينون من خلاله اتجاههم، هل هو نحو تحقيق الهدف أم يسيرون في الاتجاه المعاكس؟
والإسلاميون أيضا، تمثلوا خطاب سيد قطب وأطلقوا شعارات جميلة، يجسد اغلبها أهداف الدين الحنيف، لكن السبيل لبلوغها لم يتضح بعد. والأهم من ذلك ما ضمان السير في اتجاهها؟ قد يسلكون الطريق الخطأ! ومن هو الصديق والعدو في هذا الطريق؟ وما الآليات التي تحول دون تحويله إلى ضد نفسه أو تسويقه لمصالح أشخاص أو جهات؟ أو تحويل المشروع الإسلامي إلى مشروع طائفي لنيل جزء من الشعب من جزء آخر لتأمين امتيازات لقادة هذه التوجهات، كما هو حاصل بالفعل في عراق اليوم؟
ظهرت في نصف القرن الأخير حركات شعبية مهمة شاركت فيها التوجهات السياسية القومية واليسارية والإسلامية، وجميعها قدتم شهداء في سبيل الوطن.
لا يمكن التطرق إلى التاريخ السياسي لهذه الحقبة المهمة من خلال هذه الكلمات، وعلى الرغم من وجود كتابات ودراسات عن هذه التجارب المريرة، لكن أعتقد بأننا ما زلنا بحاجة إلى دراسات معمقة، لاكتشاف أسباب إخفاقها.
ما أريد الحديث عنه هنا بشكل مختصر، هو ميزات الحركة الشعبية الأخيرة \”31 / 8\” ضد الفساد المقنن، وما تمتاز به عن سابقاتها. وسأوجز ما أراه في نقاط:
1ـ هذه الحركة تختلف عن سابقاتها بأنها تطالب بأمر واضح ومحدد وهو وقف مسار الفساد المقنن حفاظا على موارد البلد، فهي لا تطالب بأيديولوجية موهومة غير واضحة المعالم. بل حتى لم تطالب بالخدمات، لأن هذا الأمر كما رأينا في العقد الماضي يحتمل التلاعب ويمكن تسويفه واتهام أطراف مختلفة بإخفاقها فيه. ومن ثم تحاك ألف حجة وحجة ويتهم ألف طرف وطرف لعدم توفير الخدمات. هذه المرة لا يمكن التحجج بدول الجوار ولا إسرائيل ولا الصهيونية ولا الماسونية ولا الحرب الطائفية ولا النعرات العرقية، بل أصبح الشعب وجها لوجه مقابل البرلمان.. البرلمان الذي من المفترض أن يكون منتخبا ووكيلا عن الشعب.
اليوم وقف الأصيل بوجه الوكيل ليقول له اسحب يدك من جيبي ولكنه لا يستجيب.
حركة الشعب يوم 31 / 8 هدفها واضح ومحدد ومعقول وسهل المنال، وهو طلب تشريع بسيط من البرلمان يحد من استغلال البرلمانيين لمواقعهم والتفرد بخيرات البلد والاستئثار بها. فالهدف واضح، وسبيل بلوغه واضح، والصديق والعدو معروفان، وسوف نبقى مصرين على مطلبنا حتى يحكم الله بيننا.
2ـ مطلب الشعب ليس لصالح فئة أو حزب أو عرق أو طائفة، وحتى ليس لصالح جنس أو فئة عمرية، بل يعم الجميع.. كل الشعب، وليس ضد أي شخص أو فئة أو حزب أو طائفة أو عرق، بل ضد المسؤول المتجاوز. وأتمنى أن لا نسمح لساسة العصر الرديء، بإدخال القضية في لعبة الطائفية.
3ـ حركة \”31 / 8\” ليس لها زعيم، لا رجل دين ولا شيخ عشيرة ولا رئيس حزب ولا شخصية أكاديمية ولا رجل أعمال ولا أي شخص آخر.
بدأت الدعوات لإلغاء تقاعد البرلمانيين وذوي الدرجات الخاصة من صفحات الفيسبوك، ومع الأيام نزلت إلى الشارع، وانبثقت لجان تنسيقية شعبية، وبدأت التحضيرات للتظاهرة الكبرى في مختلف المحافظات بشكل تدريجي، حتى انطلقت يوم \”31 / 8\”.
عدم وجود قائد محدد لهذه الحركة، وشعبيتها ميزة كبيرة لها.
4ـ هذه الحركة، في الحقيقة، تعد الخطوة الأولى لتصحيح مسار العملية السياسية التي ولدت عرجاء وتقاد بأيدٍ غير كفوءة ولا أمينة. وبمشيئة الباري تعالى، سوف تكون هناك خطوات أخرى لاستعادة البلد المخطوف. فهي سلكت التدرج والمراحل بالإصلاح ولم تطالب بالسقف النهائي منذ اليوم الأول، لأن المطالبات غير الواقعية تسبب فشل الحركة.
5ـ انبثاق لجان شعبية لمتابعة المطالبات الشعبية. وهذا الأمر غاية في الأهمية لإنجاح أي حركة جماهيرية.
6ـ أكثر ما يخاف منه المسؤول الفاسد هو وجود شعب حي، شعب يقول كلمته، شعب يهمه ما يجري في البلد ويتابع ويقيّم ويشخص الصحيح من الخطأ ويخرج للشارع ويصرخ عاليا بكلمة الحق. ولهذا حين أعلن الشعب موعد خروجه قبل أكثر من شهر بدأ بعض النواب، بل اغلب أو جميع أطراف \”الائتلاف العراقي الموحد\” بخطوات ضعيفة أو تصريحات متضامنة تجاوزت حد الكلام، كل هذا – عدا الدعاية الانتخابية – حتى يجهضوا الحركة ولا يخرج الشعب. ولكن الشعب هذه المرة فهم اللعبة وخرج.
والمهم الآن أن يستمر.
لكن كيف؟
ما دام الهدف واضحا، والعدو والصديق واضحين، يمكننا رسم خارطة الطريق بيسر.. فلنتعاون معا لأننا جميعا نحتاج بعضنا لاستعادة وطننا المختطف.
* باحث وكاتب ثابت في \”العالم الجديد\”