أعمدة رئيسية
تبدو غامضة الفوائد التي تحققها المدن من خرابها على أيدي المحتلين - هذا إن كان ثمة فوائد! - في الأقل، على مستوى تأليف الكتب. ولأعد إلى حادثة استثنائية تقع لمدينة كبغداد، وأعني بها حادثة إلقاء كتبها في دجلة، وتحوّل لون النهر إلى الأحمر.
ولم أعرف أول الأمر العلاقة بين اللون الأحمر والكتب، فالكتب لا تُكتب أو تُنسخ باللون الأحمر، وإنما الأسود أو الأزرق. وكنت، كشاهد يسكن في بغداد أيام غزو هولاكو المدينة، واستباحة عمرانها، وأموالها وأناسها وكتبها، لا أستطيع فهم سر اللون الأحمر، ولطالما تخيلته بفعل الجثث التي كانت تلقى مقطوعة الرأس في النهر. وكان الأمر يملأ أهل بغداد رعبا من الموت، واطمئنانا خفيفا على الكتب، فما زالت سليمة حيث ألقيت في النهر!
وهنا لمعت في ذهن أحد المثقفين الكبار، وربما أحد الورّاقين، فكرة جعلته يصرخ: لماذا لا نسترجع الكتب من النهر؟ لن يحاسبنا أحد من الجنود الغزاة على ذلك. إنها في حكم التالفة عندهم. سيظنون أننا نريدها لأمر ما غير إنقاذها أو إحيائها. سيظنون أننا نريد أن ندفنها كما نفعل بجثث معارفنا القتلى. سيتلذذون بعذاباتنا، كما يفعل الغزاة عادة. وعلى كل حال - واصل الورّاق المتحمس كلامه - فنحن سنتسلل خفية دفعا لأي خطر محتمل.
اتفق الورّاقون على أن يقوموا بالأمر في الليلة التالية مستفيدين من ضوء القمر الذي سيكتمل ليلة غد. وبالفعل انطلقوا إلى النهر، وبدأوا بجمع الكتب الغرقى، ومن دون أن يدققوا في حالتها، نقلوها إلى إحدى البيوت البغدادية القديمة.
كانت أحمالا كثيرة من الكتب تركوها حتى تجف. نشروها في الشمس. وكانوا واثقين من أنهم أحيوا بغداد، وأن هولاكو لم يفعل إلا القليل إذا ما تم إنقاذ الكتب.
وبعد أيام قليلة اجتمعوا ليقلبوا الكتب قبل أن يعيدوا نسخها إلى صحائف جديدة، وحفظها إلى أن يزول هولاكو وجنوده. غير أنهم فوجئوا بالصحائف بيضاء خالية من الكتابة، نزل مدادها إلى النهر وسار مع مياهه.
حزن المثقفون والورّاقون حزنا شديدا حتى أخذوا يبكون وينتحبون. قلت في نفسي لا يخلو الأمر من فائدة، فها نحن مطالبون بإعادة الكتابة، لا النقل. علينا أن نملأ الصحائف الخالية بكتابة جديدة، وما أشد حاجتنا لمثل هذا الأمر!
بالضرورة أو للضرورة، لم أجرؤ على السؤال علنا: ماذا لو لم يفعل هولاكو بكتب بغداد هذا الفعل؟ بالتأكيد سنعود إلى تقديسها تقديسا كثيرا باعتبارها صورة الماضي قبل الغزاة، وباعتبارها هوية بغداد الحادة العصية على الخراب.
قلت في نفسي: كنت سأفعل ما فعل هولاكو لو لم يفعل. علينا أن نبدأ كتابة جديدة بعد احتلال كاحتلال هولاكو، وخراب كخراب بغداد الحالي. فكرت أيضا: ماذا لو لم ينسلخ كل مداد الكتب، وبقي قسم منه؟ آه.. إذن سنلجأ إلى الحشو، وإلى سد الفراغات بالكتابة التي تحاول التماثل مع الكتابة الغائبة، والاستجابة للكتابة المعطوبة.
إنها إرادة القدر، لقد زال كل ما كان في الكتب، وعلينا أن نبدأ من جديد. أن نقترح المعنى تلو المعنى تلو المعنى.. وهكذا إلى ما لا نهاية. فليس من عودة لمداد كتب بغداد. وليس من عودة لها.
أية فائدة ستكون لهولاكو لو أننا أحسنّا إعادة كتابة كتبنا؟!