أعمدة رئيسية
تحاول سمية الشيباني في روايتها (نصف للقذيفة) أن تؤكد انقسام الإنسان العراقي مكانيا وزمانيا ونفسيا إلى نصفين، فهو يعيش زمانين ومكانين ووضعين نفسيين.
هو ينقسم إلى زمان قديم سابق على صدام، وربما يعود إلى البراءة الأولى التي تعكسها أسماء الشخصيات (آدم ومريم ويوسف وإبراهيم وإسحق ويونس وموسى وأحمد)، وزمان حالي هو زمان الحروب والدمار التي يقودها البعث وقائده الأوحد.
وهو ينقسم إلى مكانين الخارج والداخل، المنفى والوطن. الخارج الذي يمنح الإنسان الأمان والسعادة والاستقرار، وهذا ما تقوله الراوية حين تلح على زوجها بأن يعود سريعا إلى لندن، والوطن الذي يسبب له الأذى النفسي والجسدي، ويهدد أحلامه وحياته ومن يحب بالتعاسة والموت.
والإنسان العراقي نتيجة لانقسامه في الزمان والمكان، ينقسم نفسيا بين ما يريد وما يحلم به وما يحب، وما يعيشه من خراب ودمار وموت ليس له إلا أن يكون أمامه عاجزا ومستسلما وضعيفا وباكيا. وذلك الانقسام يسري على الشخصيات كلها تقريبا من دون استثناء، ويظهر في جسدها وسلوكها ورد فعلها، ويحوّلها إلى أنصاف.
إن أخت مريم الراوية، نصف إنسان لأنها فقدت توأمها يوسف في الحرب الإيرانية. وإبراهيم نصف إنسان لأنه فقد نصف جسده في الحرب ذاتها. وآدم، الذي تحبه مريم بعد أن تجمعهما مقاعد الطائرة العائدة إلى العراق، نصف عراقي. أبوه عراقي وأمه بريطانية.
والشخصيات الأخرى كلها أنصاف، فهي تنقسم بين اسم ذي محمول ديني يبشر بالظفر والتغلب على الظروف والفوز، كما يحصل للأنبياء في نهاية المطاف، وواقع لا ينتهي بالشخصية إلا إلى الحزن والعجز والموت، فآدم يصاب في حرب العام 1991 إصابة تفقده الوعي لفترة طويلة ثم يموت في أحد تفجيرات العام 2003. ويوسف يموت في حرب الثمانينيات. وإبراهيم يفقد نصفه في الحرب ذاتها. وأيوب والد آدم لا يُجزى على صبره بالبقاء بعيدا عن العراق أربعين سنة بعد عودته إليه، إلا بموت ابنه!
وتلك الشخصيات عاجزة عن الفعل لا تحمل في مسمياتها وفي وعيها إلا تاريخا لم يعد قادرا على مواجهة المتغيرات التي يشهدها العالم والعراق. وذلك ما يحوّلها، إن أرادت الفعل، إلى شخصيات منتقمة تقتل مع الآخرين نفسها، كما في حالة أحمد الذي يقتل آدم ومريم حين يفجر السيارة الملغومة بهم، وهو معهم، صارخا: الله أكبر! متهما، قبل صرخته الشنيعة تلك بقليل، آدم بأنه نصراني. ولم يكن انتقامه من آدم لشيء إلا لأنه أخذ منه مريم التي أحبها ولم تبادله الحب.
وسرديا تلجأ نصف للقذيفة، في موازاة العجز الكبير الذي تعيشه الشخصيات وتتحرك فيه، إلى تمكين السببية بطريقة لافتة. ومن المعروف أن الحبكة عند فورستر، أو ما يعادل المبنى الحكائي عند الشكلانيين الروس، تختلف عن القصة، وما يوازي المتن الحكائي، في أنها، أي الحبكة، تعتمد السببية، وحسب المثال الشهير لفورستر: مات الملك ثم ماتت الملكة قصة، أما مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه فهي حبكة، لأن هناك سببية وتأكيدا للسببية. والسببية تميّز بدورها الرواية عن التاريخ، وعن الحوادث العادية الخارجية والعشوائية.
ولكن ليس شرطا أن تكون السببية واضحة، وإنما يُفضل أن تكون غير ظاهرة وعفوية ولا يشعر بها القارئ الذي يسعى في الرواية إلى التشويق. فإذا اهتم الراوي كثيرا بالتصريح بالأسباب وتقديمها على الأحداث، فعلينا أن نتوقع دلالة أو موقفا من العالم.
وإذا عدنا إلى أحداث نصف للقذيفة فغالبا ما يُقدم السبب على الفعل، وغالبا ما يتضمن السبب تصريحا وتلميحا بما سينتهي إليه حال الشخصية. يبدو ذلك من تركيز السرد في المقعد الشاغر في الطائرة قرب مريم والتنبؤ بمن سيشغله، ليكون شغل المقعد سببا في قصة حب تغيّر مجرى حياة مريم، ومجرى أحداث الرواية، فمن سيشغل المقعد نصف عراقي يُدعى آدم جاء إلى العراق في مهمة صحفية. وسيدور حديث بين مريم وآدم، وتعطيه رقم هاتفها عارضة عليه المساعدة في التعرف إلى بغداد التي لم يزرها من قبل. ويتصل بها آدم، وسرعان ما يفصحان كلاهما عن مشاعره تجاه الآخر ويقرران الزواج.
ورفض مريم القاطع لأحمد أخي زينب صديقتها المقربة رغم توسلاته سيكون سببا في موت آدم. وهي تصرح بذلك حين تشير إلى توسلات أحمد لها بأن تحبه قائلة في بدايات الرواية: إنها لم تكن تتوقع أن الأمر سيصل إلى أبعد من حزن أحمد لموقفها من مشاعره تجاهها.
وآدم نصف العراقي سيكون سببا في هجرة مريم من جحيم العراق، ولكنه أيضا السبب في عودتها إلى العراق، فآدم يقنعها بضرورة العودة لرؤية أهلها وأصدقائها، ولأن أباه يريد أن يرى العراق بعد منفى استمر أربعين سنة. وستكون العودة، التي ترددت في القبول بها مريم كثيرا، سببا في موتها وموت آدم. ورغبة مريم في زيارة صديقتها زينب وتوديعها قبل العودة الى لندن، رغم اعتراض الأخت، ستكون السبب المباشر لموتهما هي وآدم.
السببية تأتي صريحة، وتتضمن دائما تلميحا إلى نهاية الرواية المأساوية ونهاية شخصياتها. وهي تؤدي دورا دلاليا في الرواية، إذ تشدد على هشاشة الكائن وضعفه أمام عظم الأسباب التي لا يد له فيها، ولا يستطيع مواجهتها. وهي أسباب تمحق الإنسان وتجبره على الاستسلام لها حتى مع معرفته بنتائجها أيا كان ذلك الإنسان شخصية من شخصيات الرواية أم راويا، فالجميع متساوون في الضآلة والضعف والاستسلام للمصائر التي تتشابه فردية وجماعية.
وهذا التركيز عبر السرد أو عبر تقنية ما، كتأكيد السببية وإعلانها وتقديمها على الحوادث، هو ما يميز الرواية العراقية بعد التغيير في سعيها إلى التخفف الأخلاقي من أي دور للمثقف فيما يحدث للعراق الآن، فهو، شأنه شأن الآخرين، عاجز تتحكم به قوى لا قِبل له بها. وهو ما يبرر خيار المنفى ويجعله، في الوقت ذاته، سببا إضافيا للتعاطف مع مثقف الخارج الذي، وكما تظهره سرود المنفيين، يدفع أضعاف الثمن الذي يدفعه العراقي في الوطن، لأنه يعيش، فضلا عن مأزق الوضع العراقي الذي يسكن العراقيين كلهم، آلام الغربة والتشظي والتيه الذي كتب عليه أن يعيشه، هو عراقي الخارج، إلى ما لا نهاية.