رأي
لم أشهد مذبحة أوائل الأربعينات التي طالت يهود بغداد وأطلقت عليها تسمية الفرهود، لكنني أتذكر يهود العراق جيدا، جيرانا وأصدقاء وزملاء دراسة. صحونا يوما لنجدهم قد غادروا تاركين بيوتهم فارغة، فزمن الخوف لم يكن ليسمح بلحظات الوداع.
ومرت عقود من السنين لا نعرف شيئا عن مصيرهم، حتى جاء زمن الانترنت فبدأنا نقرأ مؤلفات لسمير نقاش وشموئيل موريه وسامي ميخائيل وغيرهم. كل منهم كان يدون لوعته لضياع زمن عاشوا فيه عراقيين مثلنا. تجد كلا منهم يرسم للعراق صورة لم تسقط السنوات الطوال أدق تفاصيلها، وكأنه غادر مطار بغداد ليلة أمس. لكن كلا منهم كان يحمل جرحا لم يندمل اسمه الفرهود.
في الأول من حزيران 1941، وبعد هروب الملك والوصي على العرش وفشل حكومة رشيد عالي الكيلاني، أصبحت بغداد بلا حكومة، واختفى من شوارعها رجال الجيش والشرطة، فاندفع رعاع المدينة يحملون السكاكين والخناجر والهراوات كي ينتقموا من اليهود على الطريقة الهتلرية. هاجموا بيوتهم ليقتلوا من طالته أيديهم ونهبوا متاجرهم ومقتنياتهم، واستمر الفرهود يومين كاملين حتى تدخل الجيش الانكليزي فأوقف المذبحة.
تقول الرواية الرسمية ان ضحايا الفرهود كانوا حوالي 300 قتيل وأكثر من 1000 جريح، إضافة الى الأموال التي نهبت. ولا شك في ان لدى اليهود وسلطتهم الروحية آنذاك معطيات دقيقة بالأسماء والأرقام عن عدد الضحايا وحجم الأموال المنهوبة لكنني لم أعثر على مصدر يوثقها.
يرى علي الوردي ان الجذر اللغوي لمفردة فرهود يعود الى اللغة الفارسية، (فره) وتعني الكثرة و(هود) وتعني الدكاكين. واستخدم مصطلح الفرهود للمرة الأولى في العهد العثماني، عندما كان الجنود الانكشارية ينهبون الأسواق حين يتأخر دفع رواتبهم.
لكن الجذر الاجتماعي للمفردة يعود ولا ريب الى زمن أبعد بكثير، يوم كانت القبائل العربية لا ترى ضيرا في مهاجمة جاراتها لنهب ممتلكاتها، بل وتعده حد تجليات الشجاعة. هي إذن ثقافة صحراوية عاشت قرونا ثم عززتها مراحل غزو البلدان والأمصار والعودة بالغنائم. ودخل مصطلح الفرهود حياتنا في العصر الحديث، بل وأصبحت له اشتقاقات بالعربية الدارجة، كأن تقول فرهد يفرهد فرهدة وفرهودا.
ترى، كم فرهودا مر على هذا العراق؟
تحتفظ الذاكرة بمشاهد فرهود القصور الملكية العام 1958. ما إن أعلنت الإذاعة عن ثورة 14 تموز حتى اندفعت جموع غاضبة نحو القصر الملكي الذي شهد مقتل العائلة المالكة. زرت ذلك القصر بعد بضعة أيام مع جمع من (المتفرجين) فرأيت أمامي مشهد خراب مروع. لن تصدق أن هذا المكان كان قبل أيام فقط مقرا وسكنا لملك حكم العراق. لم تكن قد تبقت في القصر أية قطعة أثاث، وتساءلت كيف أمكن لهؤلاء المهاجمين اقتلاع رخام الأرضيات وسيراميك الحمامات والشبابيك؟ لم يتبق من القصر سوى جدران مشوهة، يبدو أن بعضهم حاول هدمها، وسقوف انتزعت منها الثريات وما زالت بعض بقاياها معلقة في الهواء.
بعد أسابيع، عرضت للبيع في الأسواق أطباق من البورسلين تحمل صورة الملك وكؤوس من الكريستال عليها صورة مذهبة للشعار الملكي. ولا أحد يعرف أين ذهبت المقتنيات الثمينة من مجوهرات وتحف لا يمكن أن يخلو منها أي قصر ملكي حتى بالقياسات العراقية المتواضعة.
في الذاكرة أيضا مشهد فرهود العام 1980، يوم قام النظام البعثي بترحيل آلاف من عوائل الكرد الفيلية دون أن يسمح لهم بحمل قشة مما يملكون فأصبحت بيوتهم وممتلكاتهم نهبا للسراق.
وفي الذاكرة أيضا مشاهد فرهود الحروب المتعاقبة، وفي مقدمتها نهب الكويت الذي كان أول فرهود رسمي ترعاه الدولة.
لم يكن فرهود نيسان 2003 آخر المشاهد لأنه ظل يتواصل بأشكال وأساليب متنوعة، بعضها مبتكر لم نعرفه من قبل. هنا شهدت نهب المتحف وجموعا من البشر تهجم على دوائر الدولة ومؤسساتها فتجردها في ساعات من كل شيء ثم تشعل النار فيها. أعقب ذلك فرهود مبتكر من نهب المال العام وتقاسم الغنائم وتبادل المصالح على نحو يصعب تتبعه كما في الأحداث السابقة.
ولعل يهود العراق تركوا ذكرا طيبا عندنا لأنهم لم (يفرهدوا) أحدا.