رأي

التصفيق للنساء هذه الأيام

التصفيق للنساء هذه الأيام

عقيل عبد الحسين

الحقيقة نحن لا نريد أن نظلم الأدب العربي القديم، فيما يخص موقفه من المرأة، أو صورة المرأة فيه. مع أن تأثير النصوص الدينية والثقافية التقليدية والتقاليد الاجتماعية كان ضاغطا كبيرا، وموجها أساسيا في هذا المجال، فالمرأة في هذه الأخيرة تتحرك في حيّز ضيق جدا لا يسمح لها حتى بإظهار صوتها العادي، ولا يعطيها أية امتيازات غير كونها مصونة في بيت لا يراها فيه إلا زوجها.   وحتى في الشائع بين الناس فإنهن قوارير أي قارات في المساكن. وفي تفسير آخر إنهن سريعات الكسر، لا يستطعن المواجهة وخوض الصعاب. وإنهن إذا كُسرن، مثلهن مثل الزجاج، فكسرهن لا يلتئم بعدها أبدا.   وهذا التصور عن المرأة ووضعها، إنما يأتي من مجتمع كان اقتصاده يقوم على عائد الحروب سواء في الجاهلية فيما يسمى الغزوات أم في الإسلام فيما يدعى الفتوحات. والبنية الاقتصادية هذه تنتج ما يشبه تقسيم العمل الذي تعرفه المجتمعات كلها. وبما أن المرأة هنا غير قادرة بحكم بنيتها الجسدية على خوض القتال فهذا يعني أنها ستتحول إلى وسيلة لخدمة المقاتلين شأنها في ذلك شأن ممتلكاتهم الأخرى، وعرضة للسلب حتى، مثلها مثل غيرها من الممتلكات. ويأخذ ذلك التقسيم وما يتبعه من وضع للمرأة أشكالا مختلفة بحسب تطور المجتمعات الاقتصادي.   وينتج عنه مواضعات سلوكية وثقافية يفرضها المجتمع. وهي، أي المواضعات تلك، وبحسب سنن التطور، عرضة للتغيّر مع تطور المجتمع الاقتصادي، ودخوله إلى عصر المدينة والمدنية، وإعادة النظر في تقسيم العمل على أساس الكفاءة والقدرة العقلية، ومع تنوع العمل الذي توزع إلى عضلي وفكري ومكتبي وتعليمي في المدارس والجامعات وثقافي في احتراف الكتابة الأدبية كالرواية والمقالة والبحث الأكاديمي.   ومن الحتمي أن يوازي هذا التغيّر في نمط الحياة الاقتصادي تحوّل ثقافي. وهو شيء ظهر حتى في العصر العباسي، ومع ظهور الحياة المدنية، فجرت إعادة النظر في دور المرأة أدبيا ونقديا، وقام الكتّاب بتقديم صورة مغايرة لها، ففي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني نجد نساء ناقدات استمعن إلى الفحول من الشعراء واعترضن على أشعارهم وصوبن لهم ما كان خطأ. وفي الكتب الأدبية كالمقامات وجدنا للمرأة صوتا ودورا في النص، فهي تشترك مع زوجها في تمثيل دور مرسوم لها تظهر فيه مدافعة عن نفسها تجاه ظلم الزوج وسوء أخلاقه، وكل ذلك يجري أمام جمع من الناس للحصول على إعجابهم وأموالهم في تلميح إلى بدايات تغيّر دور المرأة، فهي شريك حقيقي في مواجهة متاعب ومشكلات الحياة الاجتماعية التي صارت تميل إلى التطور والتعقيد وتتطلب مشاركة حقيقية ومتطورة للمرأة فيها إلى جانب الرجل.   ولكن ذلك الطرح أو تلك الصورة الجديدة للمرأة لم تكن لتشكل تحديا صارخا للتقاليد الدينية أو الاجتماعية التي تميل إلى الثبات في مجتمعاتنا، فقد ظلت بسيطة وخجولة مقارنة بالعصر الحديث وبما شهده من تطور لوضع المرأة في الحياة الفعلية، وهو تطور لم يستطع المجتمع أن يقف بوجهه فعلا، لأنه حتمي، ولكنه بالمقابل واجهه ثقافيا من خلال وسائل متعددة منها الحفاظ على الصورة النمطية التقليدية القديمة للمرأة في الأدب وترويجها عبر فن مستحدث هو الرواية في بداياتها، وفيها تظهر المرأة ضعيفة ومستسلمة ومهيأة للحب فقط وتبادل المشاعر ولا تستطيع أن تقوم إلا بدور ثانوي في الحياة قياسا بالرجل صاحب الوعي والدور الفعلي والقرار. ومثل ذلك نجده في رواية زينب 1912 وفيها تستجيب زينب لحامد ابن الاقطاعي ولأنه ينصرف عنها فإنها تتجه إلى ابراهيم ابن الفلاح لتنتهي مهزومة بمرض السل وبالموت بعد فشلها في الحب.   ومثل هذا الانتاج للصورة التقليدية للمرأة نجده في السينما والدراما التي لم تتوقف فيها أكف الأبطال عن صفع وجوه النساء وتوجيه العنف اللفظي والمعنوي لهن وإظهارهن  في صورة المستسلم الضعيف إلا نادرا.   ويظهر ذلك الأمر في مناهج التعليم التي تحفل بقيم الذكورة التي تنتمي للعصر القديم ونمط عيشه وتفكيره، وصولا إلى التركيز في المنتج الأدبي الذكوري في العصر الحديث وإعطائه المكانة الأساسية. وكما أعرف من التجربة، فإننا في الجامعات لا نكاد نتوقف في تاريخ الأدب والنقد عند أية كاتبة أو صوت نسوي مغاير لما رسخ في الذهن عن صورة المرأة التابعة والعاجزة والشاكية والباكية، وحتى النماذج القليلة التي تركها لنا الأصفهاني وأمثاله عن مشاركة المرأة في الحياة الأدبية هجرناها لسبب أو لآخر!   ولهذا استغربنا ما قامت به الطيارة الإماراتية مريم المنصوري من ضرب مواقع المسلحين، وما قامت به نساء كوباني من مقاومة مسلحة لهم، وأنا أتحدث عن المثقفين أو المناوئين للإسلاميين، فالإسلاميون رأوا فيها وخاصة في الطيارة الإماراتية إهانة للإسلام والمسلمين وتعمدا من أمريكا في الحاق الاهانة المعنوية بهم وإذلالهم. أما المثقفون والمدنيون، فكأنهم فوجئوا للمرة الأولى بصورة مغايرة للتي استسلموا لها، وربما كانوا، من دون وعي منهم، من المروجين لها كاشفين عن عجز ثقافي مستحكم في ثقافتنا عن إيجاد التوازي الضروري بين التقدم المدني والإنساني، وما يجب أن يرافقه من تفسير ثقافي وفكري من شأنه أن يجعل التقدم المادي جزءا من الشخصية لا عارضا خارجيا استهلاكيا.   ولعل الإرهاب الذي نواجهه يعود في سبب من أسبابه إلى العجز الفكري والنقدي والإبداعي العربي عن تحويل الحداثة والتحديث التي يعيشها الإنسان العربي بشكل أو بآخر منذ أكثر من قرن من الزمان، إلى سلوك يومي وأصيل فيه من دون أن يشعر أنهما، أي الحداثة والتحديث، كما هو حاصل اليوم، تمثلان تهديدا لوجوده أو معتقده، هذا فيما يتعامل مع منتجاتهما المادية والفكرية من غير حرج في الواقع.   يبقى علينا أن نسأل أخيرا: هل حقا صورة المرأة المقاتلة والمدافعة عن قيم المدنية، وعن حريتها الشخصية وكيانها المعاصر، صورة مستغربة إلى هذا الحد؟ لا.. هي في الواقع موجودة، ولكن الإعلام يتجاهلها، والمثقف يتجاهلها، بل يعاديها كتابيا في أحيان كثيرة.   ولدواعي محاربة عدو مشترك وبمساعدة وسائل الاتصال ظهرت تلك الصورة لتفاجأنا، ولتدعونا إلى مراجعة موقفنا ومسؤليتنا الأخلاقية عن ظواهر التخلف والإرهاب على تنوعها، وقد أصبحت تهدد مدنيتنا ومجتمعنا.  

مقالات أخرى للكاتب