أعمدة رئيسية

السيلفي.. برقية الذات المنكمشة

السيلفي.. برقية الذات المنكمشة

جاسم بديوي

كانَ تجمُّعاً حاشداً ذلكَ الذي شَهِدْتُهُ في كليةِ الآداب الاُسبوعَ الماضي. جمهرةٌ من الطلابِ أمامَ المدخلِ الرئيسِ لقسمِ الفلسفة من اجلِ التقاطِ سيلفي. لو كانَ هذا المشهدُ قبلَ سنواتٍ لَمَا تردَّدَ واحدٌ من المارة لالتقاطِ الصورة ثمَّ عبرَ مع العابرين.. فما الذي يحدثُ من تحولاتٍ لا شعورية تمُرُّ بها حياتُنا؟   كانَ مشهداً يومياً مألوفاً أنْ يطلُبَ منك شخصٌ التقاطَ صورة، لا سيما وأنتَ تتجوَّلُ في مَعلمٍ سياحي، وكانَ من المألوفِ ايضاً الاستجابةُ لمثلِ تلكَ الطلبات بوصفِها دلالةً على اللُّطفِ والكرم، ونتيجةً لنمطٍ معينٍ من التواصُلِ بينَ العَلاقاتِ الإنسانية، وحتى وسيلةً للتبادلِ القيمي في ما كانَ يُعرَفُ قبلَ سنواتٍ بالحوارِ مع الحضارات.   آنذاكَ لم تكُنْ تتطلَّبُ منك سوى وقفةٍ وابتسامة، او ضبطِ الكاميرا على مؤقتِ التصوير، مِن ثَمَّ تُؤَرْشَفُ اللقطةُ وتُودعُ البومَ الذاكرة تجسيداً للحظةٍ ما. آنذاكَ لم نكُنْ نشهَدُ حركاتٍ (بوزية) غريبةً ولا اشاراتِ نَصْرٍ متحركة ولا دورانَ الأوجهِ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، ولم نكُ نشهدُ اصطفافاتٍ غيرَ متوازيةٍ ولا اُنوفاً كبيرةً تتصدَّرُ مركزَ المنظورِ الصوري!   لا تحمِلُ ظاهرةُ نشوءِ وانتشارِ السيلفي في مواقعِ التواصلِ الاجتماعي دلالاتٍ قيميةً جديدةً فحسب، بل تحملُ معها تقبُّلاتِنا الذهنية للتغير. والمتابعُ الذكي يجدُ أنَّ كلَّ التغيراتِ الثقافية تنطلقُ من برقياتٍ تسويقيةٍ كانتْ تمرُّ عبرَ الممرِ التمهيديِّ الجماليِّ الذاتي ومنها تتحوَّلُ الى سلوك وبالنتيجة يُدعَمُ معرفياً وبعدَها سياسياً واقتصادياً.   هذهِ الحكايةُ من ألِفِها الى يائِها، وما يُعلِمُنا (من العلامة) او ما يُوسِمُنا بهِ السيلفي هو انكماشُ ذواتِنا من الخارج نحوَ زوايا الداخل، الى عتمةِ الذات، الى الفردانيةِ والتوحد، إذ يُمكنُ للعدسةِ أن تُترجمَ كلَّ نياشينِكَ الجسدية أينَما كُنت، في غرفةِ النوم، في الحماماتِ، والعملِ، والمعاركِ، وحتى في المقابرِ ومع الأموات!   ومع السيلفي ينتهي تقريباً عصرُ الاتكيتِ الصوري وخصوصيةُ إجراءاتِ التصوير. ومَن يتذكَّر معي الطقوسَ (الوثنية) التي تسبقُ عملياتِ التصويرِ الجماعيّ في الحفلاتِ العامةِ والخاصةِ وصورِ التخرج، والذهابَ الى الاستوديو؛ يُدرِكْ حجمَ تبدُّدِ ذلكَ السياقِ الاجتماعي الذي يبدو أنه راحَ ادراجَ الرياح.   استطاعَ السيلفي في التجمعاتِ الثقافية أن يهزمَ الكتابَ والوثيقة. فمجردُ انزالِ سيلفي في تجمُّعٍ ما كفيلٌ أن يُختنَ حضوركَ او مشاركتك في قِطعانِ الثقافة. لذلكَ فإنَّ الحشودَ البشريةَ في المتنبي والقشلة لا تتعدى أن تكونَ حشودا سيلفية ليسَ إلا، والدليلُ مراجعةُ مبيعاتِ كتبِ المتنبي ما زالتْ على حالِها، كما يُؤكِّدُ لنا كتبيونَ ومكتبيون، منذُ حلولِ حِقبةِ السيلفيات، كما أنَّ الندواتِ والمِهرجاناتِ التي تُقامَ هُناك أصبحتْ فضاءً سيليفياً يُؤتى كي تُؤتى.  

مقالات أخرى للكاتب