رأي
بعيدا عن السياسة ودهاليزها المليئة بالمزايدات والمواقف المتناقضة والمعارضة والمتوافقة، قريبا من مهنة الدفاع من مصالح الوطن وحماية أمنه والحفاظ على سيادته، المهنة التي تشرفت وعدد كبير من زملائي ان نمتهنها لعقود طويلة من السنين تمثل أكثر من ثلث سنوات العمر، وكسبنا من خلالها خبرات التخطيط والقيام بتقدير موقف العمليات في كافة المستويات، قريبا من مهنة العسكرية حيث لا اختلاف ولا معارضة او توافق إلا حول الأسس المهنية والسياقات الأكاديمية في وضع الخطط والخيارات المقترحة (مسالك العمل) المفتوحة لصانع القرار السياسي لتبني أحدها.
يحتفظ التاريخ للأمم ان تعبئ كل ما لديها من طاقات بشرية وموارد أخرى عند تعرضها لأي أزمة، حالة طارئة، كارثة طبيعية او تهديد جسيم يعرض أمنها ومصالحها العليا وأمن مواطنيها وشعبها للخطر. وتفوق هذه التهديدات بطبيعتها قدرات المنظومة الأمنية الوطنية المتمثلة بالجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الملحقة بها، فتعمل الحكومات على تشكيل وحدات طوارئ او شعبية قتالية لدرء المخاطر والقضاء على التهديدات المعادية.
بادئ ذي بدء لابد لنا ان نسلط الضوء على ان العراق تعرض منذ بداية عام 2014 لاخطر أزمة أمنية منذ ان تأسست الدولة العراقية عام 1921، تمثلت بأبشع هجمة ارهابية هددت وجود الدولة وسيادة ووحدة البلد، عندما احتل تنظيم داعش الإرهابي محافظات بأكملها وأخضعها لسيطرته. لا اعتقد ان أحدا، لا يتفق معي، من كل شرائح المجتمع العراقي، بان تنظيم داعش يمثل تهديدا خطيرا للأمن الوطني والإقليمي، فضلا عن تهديد التعايش الأهلي لشرائح وسكان وأقليات عاشت وتعيش مع بعض منذ مئات، ان لم تكن آلاف، السنين. يمكن القول ان تنظيم داعش الإرهابي وحد العراقيين بكل فئاتهم، دياناتهم وقومياتهم جميعا على انه عدوهم الأوحد وهذه حسنته الوحيدة، فرب ضارة نافعة كما قالت العرب سابقا.
تزامن ذلك مع فقدان القوات الأمنية لأكثر من 40% من قدراتها القتالية (أفرادا وتجهيزا وتسليحا) وهو أقرب الى الانهيار في المؤسسة الأمنية، فأصبحت واقعا غير قادرة على إيقاف الاندفاع السريع لتنظيم داعش، فضلا عن استرداد وتحرير المحافظات، المدن، القصبات والقرى التي سيطر عليها هذا التنظيم والتي تصل الى ما يقارب ثلث او أكثر من مساحة العراق.
واحدة من أهم متطلبات إدارة الأزمة هو وضع التوجيه الاستراتيجي والذي أهم فقراته المهمة (الواجب) والتحديدات عليها، بالإضافة الى الأسبقيات من قبل القيادة السياسية لفسح المجال أمام القادة العسكريين ببدء تقدير الموقف بوضع الخيارات المقترحة (مسالك العمل) المفتوحة لتحقيق الأهداف أمام صانع القرار ليقرر على إحداها.
كان على الحكومة العراقية ان تضع هذه المهمة والأسبقيات حسب أهميتها وخطورتها وصياغتها بشكل واضح لا لبس فيه. اعتقد ان هناك اجماعا وطنيا وإقليميا ودوليا على المهمة ذات ألاسبقية، وهي إيقاف اندفاع داعش والبدء بهجوم واسع للقضاء عليه وطرده من المحافظات التي سيطر عليها، لأن بقاءه يمثل تهديدا دائما وخطيرا للأمن الوطني، وليس هناك أسبقية أكثر أهمية منها في الظرف الراهن. ان الحكومة مطالبة ومسؤولة أمام الشع بان تعمل بكل إمكانياتها وقدراتها المتاحة لردع هذا التنظيم الذي ارتكب الفضائع والكوارث التي لم يسبقه فيها حتى المغول خلال احتلالهم بغداد عام 656 هجرية 1258 ميلادية.
لقد تضرر الشعب العراقي بكل أطيافه نتيجة هذه الهجمة البربرية، إلا ان الأكثر تضررا هم سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، والذين يشكل المسلمون السنة الأغلبية فيها وبعض الأقليات الأخرى كالمسيحيين والايزيديين مقارنة بسكان المناطق الأخرى التي لم يسيطر عليها التنظيم. فهذا التنظيم المتوحش أرهب الجميع وأجبر الكثير من السكان على الهجرة والرحيل، وتفنن بطرق القتل وقطع الرؤوس والحرق ولكل من يخالفه بالرأي او العقيدة للذين بقوا تحت سيطرته. آخر إحصائية تبين بان أكثر من مليون ونصف نسمة من السكان هجروا من مناطق سكناهم وسكنوا بظروف معاشية وإنسانية أقل ما يقال عنها قاسية وغير طبيعية في مخيمات أقيمت لهم في محافظات العراق الأخرى. نعود الى خيارات الحكومة التي قد يرى البعض بأنها شحيحة في ظل المتغيرات الداخلية والدولية وقلة الموارد التي انعكست سلبا على سرعة رد الفعل.
الإدارة الأمريكية قدرت طرد هذا التنظيم من كل المناطق التي سيطر عليها بثلاث سنوات، وبغض النظر عن الاعتبارات التي اعتمدتها في حساباتها هذه فإنها تبدو منطقية إذا اعتمدت على إعادة بناء وتأهيل وتدريب وتسليح القوات العراقية لتعويض القدرات التي فقدتها سابقا. إن طول الفترة الزمنية وعدم ضمان ما سيحدث خلال هذه السنين من تطورات أمنية وسياسية، كما ان إطالة فترة تطهير المناطق من سيطرة داعش ستؤدي الى زيادة معاناة السكان المهجرين داخلياً وما يترتب عليها من مشاكل اجتماعية كبيرة تقع على عاتق الحكومة. لذلك من الناحية العملية يمكن اعتبار ذلك أحد (مسالك العمل) الخيارات المفتوحة، ولكن احتمال تبنيه ضعيف ولا يتطابق مع تحديدات الإطار الزمني لاكمال المهمة المحدد بالسنة الحالية للقضاء على داعش، وكما صرح رئيس الحكومة وبعض المسؤولين الأمنيين بذلك.
الخيار الآخر هو زج قوات أجنبية مقاتلة لغرض تعويض وتعزيز قدرات الجيش العراقي آخذين بنظر الاعتبار موقف الحكومة العراقية بعدم السماح لوحدات قتالية أجنبية بالتدخل عدا الإسناد الجوي والتدريب والاستشارات الفنية، وهذه أيضا أحد أهم التحديدات على المهمة، لذلك فان مسلك العمل (الخيار) هذا يستبعد لتناقضه مع التحديدات. من جانب آخر فان الإدارة الأمريكية ترفض مشاركة قواتها البرية في العمليات الجارية.
الخيار الآخر هو استدعاء المواليد لأداء الخدمة الإلزامية والاحتياط ضمن تشكيلات القوات المسلحة، ولعدم وجود هيكلية فانه يحتاج الى تشريع وقوانين لتنظيمه والعمل به، كما ان قدرات الجيش الإدارية، اللوجستية والبنى التحتية الحالية غير مهيأة لاستقبال عدد كبير من المجندين قد يتجاوز المليون مجند في آن واحد، وكذلك لعدم وجود احصائيات دقيقة تحصي أعداد المشمولين وغير المشمولين، كما ان واحدة من محاذير هذا الخيار هو ان الخدمة فيه إلزامية وليست طوعية، مما يثير التذمر بين صفوف المجندين، لذلك اتباع هذا الخيار سيستنزف وقتا وموارد كبيرة مما يجعل احتمالية تبنيه ضعيفة.
الخيار الأخير هو استدعاء المواطنين للتطوع دون شرط او قيد في تنظيمات شعبية مساندة للقوات العسكرية، وهذا متبع في إغلب دول العالم، وخصوصا خلال إعلان حالة الطوارئ ولمواجهة الكوارث الطبيعية وللقيام بأعمال الإغاثة. يمكن لهذه التنظيمات ان تكون تنظيمات وتشكيلات شبه عسكرية لتأدية واجباتها على ان تكون تحت سيطرة الحكومة لتنسيق فعالياتها. ان هذا الخيار يعتمد بالأساس على العمل التطوعي مما يعني ان الرغبة بالتطوع لأداء هذه المهمة، كما ان المتطوعين، على علم بطبيعة المهمة قتالية كانت او إدارية، وهو بذلك لا يثير التذمر، وعلى الرغم من عدم وجود قدرات إدارية ولوجستية لاحتواء عدد المتطوعين فإن طبيعة الظرف الطارئ تستوجب استخدام البدائل لتعويض ذلك، كالتدريب في مناطق تجمّع خارج نطاق المؤسسة العسكرية، بالإضافة الى ذلك فان بالإمكان، كجزء من التكافل الاجتماعي ولحساسية الظرف الذي يحيط بالبلد، الاعتماد على المنظمات والفعاليات الشعبية في توفير جزء من متطلبات المعركة كالأرزاق وحتى جزء من الأسلحة الخفيفة الشخصية والأعتدة يمكن أن يوفرها المتطوعون أنفسهم، ما يوفر الكثير من الوقت والموارد على موازنة الدولة التي هي بالأساس تعاني أزمة غير مسبوقة بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية.
كانت فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرتها المرجعية الدينية في النجف الأشرف فورا، بعد احتلال الموصل وتكريت وبعض مناطق ديالى، أقرب الى الخيار أعلاه. حيث تطوعت أعداد كبيرة ممن هم قادرون على حمل السلاح، وشكلت المليشيات الشيعية المسلحة الجزء الأكبر من هؤلاء المتطوعين، كما تطوع أبناء العراق من أبناء المناطق المنكوبة من السنة والمسيحيين والشبك والايزيديين الذين انضموا جميعا تحت تسمية الحشد الشعبي. وتم تشكيل هيئة حكومية تختص بشؤونهم وان لم تصدر التشريعات القانونية بذلك.
كان على الحكومة، ليس فقط تعويض الموارد البشرية المفقودة من القوات المسلحة بل أيضا، تعويض الأسلحة المفقودة التي حصل عليها تنظيم داعش الذي يعتبر أغلبها من الأسلحة المتطورة وقد حصل عليه العراق من الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك كان واجبا على الحكومة ان تجد منافذ جديدة للحصول على السلاح، وخصوصا بعد تردد الولايات المتحدة في تعويض ما فقده الجيش.
في هكذا ظرف عصيب يمر على البلد، كان على الحكومة ان تقبل أي عرض يقدم لها لتدريب وتسليح وتجهيز قطعات الحشد الشعبي وقوات البيشمركَة الكردية، فقدمت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والدنمارك وكندا وغيرها من دول العالم مساهمات كبيرة في هذا الجانب، فكانت المساهمة الإيرانية إحداها، وذلك لوجود مصالح مشتركة في محاربة داعش، فليس من المنطقي في ظروف كالتي تمر بالعراق والحكومة ترفض هكذا مساعدات تعزز قدرات الجيش والحشد الشعبي. واحد من أهم مبادئ العلاقات الدولية: ليس هناك صديق او عدو دائم بل هناك مصالح مشتركة. مما تقدم في أعلاه يتبين ان كل الخيارات تم بحثها بالمقارنة مع المهمة والأسبقيات، و لم يترك خيار آخر إلا وتم بحث فوائده ومحاذيره إلا خيار واحد، وقد استبعدته لأنه لا يتفق مع الأهداف والأسبقيات الوطنية او إجماع المجتمع الدولي في القضاء على داعش، هو ترك داعش يعيث في الأرض فسادا مهددا الأمن الوطني بشكل مستمر دون رد فعل، وهو غير واقعي لأن المجتمع الدولي مصمم على قتال داعش والتخلص منه والعراق شريك أساسي في التحالف الدولي لمحاربة هذا التنظيم.
إذن ليس هناك خيار آخر يمكن للحكومة القرار عليه لتحقيق المهمة عدا زج الحشد الشعبي بكل مكوناته كظهير للقوات المسلحة، والقبول بالمساعدات التي عرضتها دول التحالف الدولي، وبضمنها ايران، على شكل اسناد جوي وتدريب وتسليح واستشارة لإعادة تأهيل وتعزيز قدرات الجيش العراقي والبيشمركة والحشد الشعبي.
المعركة الوطنية والدولية ضد تنظيم داعش لا تتقبل منطقيا معارضتها او الاحتجاج عليها، إلا بالآليات، فان الهدف مشترك وواحد. لذلك من يعترض على آليات التنفيذ عليه ان يقدم البدائل الملائمة والمناسبة والمنطقية التي يمكن تبنيها والعمل بموجبها ما دامت تؤدي الى غاية واحدة هي القضاء على داعش وإعادة المهجرين والحياة الى المناطق المنكوبة.
كما كان يجب على الحكومة، وكجزء أساسي من تحضيرات العمليات، ان تعد خطة دبلوماسية وأخرى سياسية موازية للخطط العسكرية، من أجل تقديم الضمانات للأطراف السياسية الداخلية والدول الإقليمية والشركاء في التحالف الدولي لكسب التأييد وطمأنتهم وتبديد مخاوفهم وتحفظاتهم من نتائج الحملة لتحرير صلاح الدين والدور الإيراني مع الحشد الشعبي، فالمعركة تتطلب الحصول على دعم واسناد جميع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية لضمان تحقيق النصر ان شاء الله.