رأي
ليس خافيا أبدا ان أكثر بلدان العالم العربي اهتماما بالتعليم وحرصا عليه هي تونس. منذ خمسينيات القرن الماضي حينما تسلّم السلطة "الحبيب بورقيبه" بدأت نهضة تعليمية كبرى في تونس. تونس تمتلك "انتلجنسيا" عريضة جدا. التونسيون ولعقود طويلة لم يكتفوا بالتعليم داخل تونس فقط، بل كانوا يبيعون بساتين الزيتون من أجل تغطية نفقات أولادهم لكي يتعلموا في أوروبا.
من زار تونس يعرف انها بلد متعلم ويعتمد السياحة واردا اقتصاديا أساسيا. سنويا يزور البلاد حوالي سبعة ملايين سائح، وهذا يتطلب بنية سياحية ممتازة جدا قادرة على استيعاب هذه الأعداد الهائلة. البنية السياحية لا تعني الخدمات فقط، بل تعني شريحة كبيرة من التونسيين ينشطون في هذا المجال. جميع المدن حتى الصحراوية هي مقاصد سياحية معروفة، ومعظم المدن التونسية على احتكاك يومي بالسياح، ومنفتحة على شعوب العالم دون اي شعور بعزلة جغرافية او ثقافية على الاطلاق.
هذه الظروف التي عاشتها تونس تجعل من الغريب جدا استيعاب ان تكون تونس هي أكثر البلدان التي صدرت الإرهابيين الى داعش! ففي احصائية صدرت مؤخرا عن المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي (ICSR) حول أعداد الدواعش وأهم البلدان التي ينحدرون منها جاءت تونس في المرتبة الأولى! حيث قدم الى سوريا والعراق من تونس وحدها قرابة الثلاثة آلاف شخص خلال الأشهر الاخيرة، وهذه مفارقة غريبة تدعو السلطات والنخب التونسية الى مراجعة شاملة للأوضاع في تونس.
حتى قبل الاعتداء الارهابي على متحف "باردو" في العاصمة تونس كان الكثير من المسؤولين التونسيين، وان تظاهروا بملاحقة الجماعات الارهابية التي تقوم بتفويج الارهابيين من تونس الى ليبيا وتأهيلهم هناك خصوصا في مدينة "درنه" أحد اهم مفاقس الارهاب، ثم ارسالهم الى العراق، يمنّون النفس بالخلاص من تلك الشريحة، ويأملون النفس بتفريغ تونس من شحنات الارهاب التي تهدد الأمن أولا وعصب الحياة الاقتصادية السياحة ثانيا. من هنا يراقبون عن بعد تلك التحركات وليسوا حريصين كثيرا على ايقافها، لكن حادثة متحف باردو قلبت الطاولة على الجميع، وأصدر الرئيس السبسي التعبئة العامة بأشكالها المختلفة ضد الارهاب.
في السنة الاخيرة فقط استعادت تونس شيئا من عافيتها الاقتصادية حينما عاد السياح بعد فترة عزوف طويلة، لكن مقتل 19 سائحا من بلدان اوروبية مختلفة أوقف مرة أخرى الى إشعار آخر معظم شركات السياحة عن تفويج السياح الى هناك. انها نكسة اقتصادية أمنية كبرى بسبب الارهاب.
تونس وكذلك بلدان اخرى تعاطت مع الارهاب فقط من مبدأ نظرية "خلية النحل" الأسلوب الامريكي المعروف الذي يدعو لتجميع الارهاب ونشاطاته في رقعة جغرافية واحدة وتسهيل خروج الجميع اليها ثم شن حرب عليها في مكان واحد. لكن التجارب أثبتت انه لا يمكن غض النظر عن الجماعات الارهابية وتحركاتها المكوكية بأي شكل من الأشكال ولا يمكن التهاون معها أبدا.
لقد كررت قبل ذلك امريكا والعديد من البلدان الاوروبية تلك التجربة ورغم ذلك سقطت في الفخ. بعد ان ذاقت المرارة عرفت تونس انها معنية قبل العراق بمحاربة الجماعات الارهابية في تونس وليبيا، وسيأتي اليوم الذي تدرك أيضا بقية البلدان العربية تلك الحقيقة حيث ان بعضها ما زال، حتى هذه اللحظة، يرى نفسه بعيدا عن نيران الارهاب التي لا تعرف عدوا ولا صديقا.