ثقافة

محمود البستاني.. بسيط كالهواء طريّ كالماء

محمود البستاني.. بسيط كالهواء طريّ كالماء

د. عبدالجبار الرفاعي

محمود البستاني؛ فقيه، مفسر، أديب، شاعر، ناقد، ناسك، زاهد، متهجد، ورع، مدمن قيام الليل وصيام النهار. تعرفت عليه في مرحلة مبكرة من حياتي عبر كتاباته في دوريات "النجف" و"الكلمة"....وغيرهما. وتوثقت علاقتي به في حوزة قم، وتواصلت صداقتنا أكثر من ربع قرن. كنت أحرص على حضور مجلسه الأسبوعي ليلة الثلاثاء في بيته. وهو مجلس يقتصر حضوره على عدد محدود من أصدقائه. عادة ما يفتتحه هو رحمه الله بعرض نصوص روايات أخلاقية؛ من أحاديث أهل البيت "ع"، تفوح بعبق مواعظ ووصايا تربوية ومؤشرات معنوية. ويطلب من الحضور شرح مضمونها. لكنه كان لا يتفاعل أحياناً مع وجهة نظري، عندما يشير النص الى ظاهرة اجتماعية، أو سلوك فردي، وأحاول أن أبحث عن تفسير وتحليل لذلك؛ من منظور ينهل من علم النفس والتربية والاجتماع والعلوم الانسانية الحديثة. إلاّ ان ذلك لم يفت في أخوتنا، أو يُصدّع حميمة صداقتنا.   غالبا ما كنت أجده صائماً حين أزوره أو يزورني نهاراً، فأدعوه الى الافطار، ونحتفل معه في منزلنا وقت الافطار بمناخات روحية عبقة. تلوّنها صلواته وأدعيته وتسبيحاته وأوراده وأذكاره. خاصة وان زوجتي "أم محمد" - لحظة تعد له الافطار – تكللها البهجة والانشراح، وهي تتلمس البركات، وتشعر بالسكينة والطمأنينة، ويملأ السلام روحها، كما حدثتني هي بذلك أكثر من مرة. وكلما غاب عن بيتنا فترة، هي من كان يستحثني على الدوام على تكرار دعواته للافطار. كل عائلتنا - أنا وهي والأبناء - تتهلل وجوهنا بالبشر حين يحل ضيفاً، نشعر بالغبطة لوجوده في منزلنا، وكأن أرواحنا تتطهر بطهارته، وأنفسنا تتزكى بتزكيته، فهو بالرغم من صمته، إلاّ ان عبادته وأذكاره، وما يبعثه من مناخات معنوية عذبة، كل ذلك يسقي حياتنا الروحية، ويكرس ايماننا، ويثري ذواتنا بمزيد من التدفق والاشراق المعنوي.   البستاني بسيط كالهواء، طري كالماء، دافئ، عفوي، جذاب. ومع انه مسكون بالتفسيرات الغيبية الميتافيزيقية، وعادة ما كنت أناقشه في الكثير مما يدلي به، لكنه لا يتعصب، أو يضجر، أو ينفعل، أو يحتكر الكلام، أو يفرض رأيه على المتلقي. ظل على الدوام مهذباً، يحتفي بمن يتحدث معه، يلتزم آداب العالم والمتعلم، وأخلاقيات أهل العلم، في المناظرة. صمته أكثر من كلامه، اشارته قبل عبارته، يتجنب كل كلمة أو عبارة حادة أو خشنة في حديثه. لم أسمع من كلماته أو أرى من اشاراته ما يشي بعنف رمزي مضمر. طالما خضنا نقاشات في مختلف القضايا الطبيعية، والإجتماعية، والثقافية، والإقتصادية، والصحية، والمناخية، والجغرافية، والتاريخية.. وغيرها، التي يعللها هو؛ بما هو بعيد غير مرئي من عللها، أي ما هو خارج العالم الطبيعي المحسوس، ويشدد على اختزال كل ذلك ونسبته الى الغيب، والى الله تعالى مباشرة. فيما أسعى أنا؛ لإستكشاف وتشريح أسبابها وعللها وبواعثها، وظروفها، وعناصرها ومكوناتها وبنيتها، المرئية القريبة، مع عدم تنكري لعالم الغيب، وعلة العلل الله تعالى.   انه كائن ميتافيزيقي يعانق الملكوت في بصيرته. يخشع حينما يتحدث عن ملهم تجربته الروحية الحاج عبدالزهرة الكرعاوي، وسطوته العميقة على مريديه، وبراعته في التسامي بأرواحهم الى قمة مدارج السالكين.   [caption id="attachment_11861" align="aligncenter" width="600"]من اليمين أحمد الكناني ود. عبدالجبار الرفاعي ود. محمود البستاني و في مدينة مشهد الايرانية 1989 (العالم الجديد) من اليمين أحمد الكناني ود. عبدالجبار الرفاعي ود. محمود البستاني وعبدالأمير المؤمن في مدينة مشهد الايرانية العام 1989[/caption]   رأيت عبدالزهرة الكرعاوي للمرة الأولى سنة 1978 عندما كنت طالبا في الحوزة العلمية في النجف، في دكانه الملاصق للصحن الشريف، من جهة جامع الطوسي، وعادة ما كنت أشاهد السيد الشهيد محمد الصدر، والشيخ الشهيد غالي الأسدي، وغيرهما، يجلسون على دكة حانوته، فسألت الشيخ غالي الأسدي: ماذا تفعل أنت والسيد محمد الصدر عند هذا الرجل، الذي يبيع الترب والسبح، وكراسات الزيارات والأدعية والأذكار، فقال: انه شيخنا وأستاذنا، ومنبع إلهام أرواحنا، يهبنا ما نفتقر اليه في دراستنا وتدريسنا للفقه والأصول والمعارف الإسلامية، انه يمتلك خبرات روحية، وتجارب دينية، ومعارف سلوكية هامة، تلقاها من خبراء في هذا المجال، وتنامت بمرور الزمن، عبر المكاشفات والإرتياض والأذكار والتنسك.   محمود البستاني لا يكف عن ذكر شيخه وملهمه الروحي، كان متيما بالحاج عبدالزهرة، يصر على انه تلقى منه ما لم يحصل عليه من الدراسة الجامعية والمطالعة. ولفرط انغماره بالإرتياض الروحي، وذوبانه في العبادات والطقوس، تجاهل بالتدريج ماضيه الأدبي، كشاعر مطبوع، وأديب محترف، وناقد أدبي، وإسم متميز في الحداثة الأدبية الستينية في العراق، الى الحد الذي كان لا يحبذ قراءة الشعر، أو استعادة أي شيء يشير الى ذاكرته الشعرية، أو الاهتمام بما أبدعه في الشعر، بل تناسى ما نشره وكتبه من قصائد. لكن استمر تأثير موهبته الأدبية ومطالعاته لنصوص الحداثة في كتاباته.   بصمة بيانه االمكثف تطبع كافة الحقول التي كتب فيها، ففي تفسيره وغيره ترتسم النصوص بلغة غنية، غزيرة، مضيئة، حين تقرأها كأنك تلتقي بأطياف قصيدة نثر، أو شذرات نثر المتصوفة الكبار، كالنفري، والحلاج، وابن عربي.   حتى آخر حياته؛ كان لا يزهد بمطالعة النصوص الإبداعية الأدبية، والإنتاج الفكري الجديد، فقد كان يستعير مني ما يجده من مطبوعات ودوريات جديدة، ويطالعها عاجلا.   نحن بحاجة الى استئناف النظر في تفسير البستاني "عمارة السورة القرآنية" ودراسته وتدريسه، ذلك انه يمثل محاولة متميزة في دراسة بنية ومنطق وشخصية السورة القرآنية، واكتشاف نسيج العناصر والمفاهيم والمقولات الخاصة المكونة لعمارة كل سورة. يجترح محمود تسمية "عمارة" لتفسيره، وكأنه يحاكي "عمارة المباني الجميلة"، بكل ما تشي به من جمال، وافتتان، ودهشة، وجلال، ولمسات فنية، وايقاع متناغم مع البيئة. انه يرى الآيات والسور مثلما يشاهد اللوحات الفنية المبهجة للفنانين البارعين.   رحم الله صديقي الروحاني الأخلاقي المهذب النبيل محمود البستاني، الذي تعلمت منه شيئاً من؛ حكمة الصمت وصمت الحكمة، والهدوء والسكينة والطمأنينة، والثقة بالله، والاستغناء بالله عن كل ما سواه، والزهد بمتاع الدنيا وبريقها وبروتوكولاتها ومزاعمها الزائفة.     [1] ولد محمود البستاني في النجف 1937، وتوفي في مدينة قم يوم الإثنين 9/ ربيع الثاني/ 1432هـ الموافق 15/ آذار/ 2011 م، ودفن في النجف.      

مقالات أخرى للكاتب