رأي

وضاح اليمن صفة لشاعر من شعراء العصر الأموي، وسمي وضاحا، كما يقول مؤرخوه، إما لأنه كان جميلا جدا، أو لأنه كان مصابا بمرض جلدي تغيّر لون جلده منه.   وترتبط باسم هذا الشاعر قصة شهيرة مضمونها أن وضاح اليمن كان يعشق زوج الخليفة، وكان يجالسها في غرفتها، ويتكرر ذلك منه. وفي أحد الأيام قدم تاجر ببضاعة من المجوهرات الثمينة إلى الخليفة وأراه عقدا جميلا، فأعجبه العقد وأمر عبده أن يذهب به إلى المرأة، فلما دخل العبد عليها فاجأها جالسة مع وضاح. ولما كان طامعا بالعقد ساومها عليه، وطلب منها أن تمنحه إياه حتى لا يبلغ الخليفة بما رأى. ولكنها رفضت، فما كان من العبد إلا أن أخبر الخليفة بما رأى، وجعله يسارع إلى مجلس زوجه.   إلى هنا ليس في القصة ما هو استثنائي، ولو قطع الراوي القصة عند هذا الحد لما وجد القارئ صعوبة في إكمالها من عنده ليطوي صفحتها مطمئنا، بعد أن يضيف: ولما دخل الخليفة المخدوع على امرأته وفاجأها تجالس صاحبها أمر بقطع رأسيهما.   ولكن يبدو أن الخليفة كان خائفا من كلمة المخدوع هذه! فكيف يكون خليفة من يمكن أن يخدعه أحد؟! إنه أمر يسيء إلى صورته عند الناس، وصورته في التاريخ. هذا إذا استبعدنا فرضية أنه يمكن أن يكون عاشقا لزوجته، لا يريد أن يثبت عليها ما يشينها عنده، وما لا يمكن معه استمرار زواجهما.   إذن سيقترح الخليفة نهاية أخرى لقصة وضاح اليمن، فما النهاية المقترحة؟ إنها الآتية: يدخل الخليفة على امرأته، ويظهر نفسه بمظهر الزائر الهادئ، ويجلس على صندوق ليس غيره في مجلسها يتوقع أنها خبأت الرجل فيه، ويأمر الغلمان بأن يحفروا حفرة في الغرفة، ثم يأمرهم بأن ينزلوا الصندوق فيها، ويهيلوا عليها التراب. وبعدها يقول مخاطبا الصندوق - بصوت خفيض كما أتصور: إن كنت فارغا فما أنت إلا صندوق. وإن كان فيك ما بلغنا عنك فإنما أنت شر استرحنا منه.   وللقارئ أن يتخيل مقدار هدوء الأعصاب الذي يتمتع به، أو الذي يجب أن يتمتع به الحاكم، ليكون أهلا لإدارة العباد والبلاد. وللقارئ أن يتخيل، أيضا، تلك المقدرة على التفكير في العواقب وحسن التدبير للخروج بأخف الأضرار المادية والمعنوية، فهل يجوز أن يتصرف الخليفة بعواطفه؟ الجواب: لا.. وسؤال آخر: حتى في أصعب وأعقد المواقف كهذه التي تتعلق بالشرف؟ الجواب: حتى في مثل هذ المواقف. بل في مثل هذا المواقف تظهر حكمته، ويظهر دهاؤه، ويظهر تفوقه، فهو لم يسارع إلى تفتيش الغرفة. إذ سيكون أمام واحد من أمرين؛ أولهما: ألا يجد غريمه، فليس مستبعدا أن يكون قد فرّ، وفي هذه الحالة سيظهر بمظهر الشاك غير المتثبت وسيجلب الأقاويل له ولامرأته. وثانيهما: أن يجده. وفي هذه الحالة سيضطر إلى قتله. وسيشيع الخبر بين الناس فتُثلم صورته. والأمران يضران به وبسمعته، وخير له أن يئد الخبر ويبقيه محصورا في حيز الشك والأقاويل. وليس هناك سبيل إلى ذلك غير السبيل الذي سلكه فاستحق أن يكون حاكما أولا، وشفى نفسه من غريمه بأن قتله أبشع قتلة ثانيا، وأبقى على زوجه التي يحب ثالثا.   إن هذه القصص من نسج الخيال في الغالب. وقصة كهذه تحديدا خيالية تدحضها قصة وضاح اليمن الرئيسة، وهي أنه كان يحب امرأة أصيبت بالجذام وعُزلت جريا على عادة ذلك العصر، فلحق بها وأصيب بمرضها وماتا معا. وتدحضها طبيعتها التي تمس الخليفة وتمتد إلى بيته وحريمه. وهو مما يصعب، إلا يستحيل، حصوله.   ولكن مثل هذه القصص احتمالات لإظهار حسن تدبير الحاكم وسلوكه المثالي تبدأ من البسيط من الأفعال وردود الأفعال وصولا إلى المعقد وإلى البعيد الحصول. وكل ذلك للقول إن الحاكم الجيد والمثالي والجدير بأن يُنصب حاكما، والذي على الرعية أن تطمئن له، هو ذلك الذي يفصل فصلا قاطعا بين العاطفة، أيا كان نوعها، والتصرف المناسب الذي عليه أن يقوم به لتحقيق المصلحة.   هذه بالتأكيد آداب قديمة الآن تُعرف بالآداب السلطانية التي تقدم المشورة للحاكم عن طريق القصص وتديم احترام العامة للحكام. ولا أعرف سببا لاختفائها ما دمنا لم نفلح في ابتكار، أو استيراد ما يعوضها، فيصنع لنا الحاكم المثالي. أفما كان من الأفضل لنا أن نبقي عليها؟ وذلك أضعف الإيمان.  

مقالات أخرى للكاتب