رأي
يتحدث الراوي في رواية (الضلع) لحميد العقابي عن قرينه وتوأمه وشبيهه الذي رافقه لثمانية وأربعين عاما هي عمر رحلتهما التي تبدأ من الطفولة والنضج والحرب والانتقال إلى شمال العراق لمحاربة البعثيين واللجوء إلى ايران وإلى الدنمارك وانتهاء بسقوط صدام حسين وانتحار القرين عاشور أو حميد الذي تنبأ بزوال وطن اسمه العراق، ليعود بعدها الراوي إلى حياته وإلى زوجته مستمتعا بما بين يديه ويائسا من العراق.
اتخذ القرين، الذي شكل حيلة سردية ذكية في هذه الرواية للتخلص من عبء السيري، صورتين: ساردا مرة، ومسرودا عنه مرة أخرى.
وكان القرين هو السارد في مقطعين من مقاطع الرواية، أولهما: الذي يصف علاقته بطائر نورس غريب استفزه حضوره المترفع المتعالي ونظرته الغريبة إليه. وثانيهما: يصف فيه موقفه من شخص يُدعى حميد، هو شبيهه وقرينه الذي يأتلف معه وينفر منه في ذات الوقت لاختلافهما في التفكير وفي التوجه وفي النظرة إلى الحياة وتفاصيلها من مرأة وسياسة وصداقة وفعل ثوري.
يتولى بعد ذلك وبطريقة غير معلنة الوجه الآخر من الراوي السرد ليحكي جانب سيرته المتصل بالعراق والحرب الإيرانية وبداياتها الثقيلة على الراوي وفراره من الحرب ومنها إلى كردستان وصولا إلى بلد اللجوء الدنمارك وتقلبه في العلاقات العاطفية ورحلته إلى سوريا وعودته منها بزوجة وطفلتين وانفصاله شبه التام عن قرينه عاشور أو حميد إلا من لقاء أخير ذهب إليه فرحا بسقوط نظام صدام حسين وما وجده عنده من رفض لفكرة احتلال العراق، ومن نبوءة بما ستؤول إليه الأمور من حرب أهلية وتفكك للعراق.
وبعد هذا اللقاء يعود الراوي صحبة جار عاشور الذي قلق من غياب الأخير، ليدخلا شقته بمساعدة الشرطة فلا يجدان جثته كما توقعا، ولكن مذكرات أو رواية أو مخطوطة اسمها (الصندوق الأسود) تدل على أنه ربما عزم على الانتحار.
وسيترجح احتمال انتحار عاشور حين يُعثر على جثة بملامح آسيوية غرقت قبل أسبوعين. ويذهب الراوي للتعرف إليها، ويجد أنها لقرينه، فينهار، ولكنه بعد أن يعود من دفن صاحبه يشعر أنه تخفف من عبء كبير وأنه الآن حر.
تبدو فكرة القرين موفقة كثيرا على المستوى السردي لأنها خففت من ضغط الذاتي والسيري على السرد. وعلى المستوى الدلالي أوجدت مساحة غير قليلة للتأمل جعلت الرواية تتخطى الكثير من مثيلاتها المكتوبات في الموضوع ذاته، وهو استذكار التجربة العراقية في عقود الثمانينيات، أو في المنفى، فليس من شيء قدري أو خارج القدرة الإنسانية أو العقلية، ولكن كل ما وقع تتحمل الشخصية المسؤولية عنه بدرجة أو بأخرى. ذلك ما يقوله القرين في الرواية، وقد لا ينتبه إليه القارئ خارجها، إذ يكون في العادة متعاطفا مع الراوي أو مع الشخصية ومتألما لقدرها وعاجزا عن النقد والتساؤل. وهو ما لا تريده، لا لنفسها ولا لقارئها، رواية (الضلع).
سيعمل القرين وهو معادل الوعي أو العقل أو الضمير أو الرقيب أو التاريخ بما أن اسمه الآخر المزيف الذي خرج به من العراق هو عاشور، على تنبيهنا إلى أنه لا وجود لضحية. وليس الراوي أو قرينه حميد، وهو يدعي أنه منكود ومشؤوم ومُقدَّر عليه ما يرى، إلا شريك فيما يقع له، معريا في مناسبات مختلفة؛ السياسيين ومنهم الشيوعيون الانتهازيون والأغبياء، والمتقاتلين أكرادا وعربا وإيرانيين، والمثقفين الذين تحركهم رغبتهم في الثأر وتمنعهم من رؤية الواقع رؤية موضوعية، فهم يرحبون بأمريكا لأنهم يكرهون صداما.
سينتهي موت القرين بالراوي إلى الراحة من القلق الذي كان يسببه له، هذا ما يصرح به في نهاية الراوية، ولكنه لن ينهي أثره في رواية الضلع التي تميزت بالتأمل والمراجعة، أو الموضوعية الكافية التي أبعدتها عن الانتماء للسرد العاطفي والذاتي، أو إلى سرد الضحايا الذي يبرر المنفى ويستبدل التداعيات العاطفية واستدعاء الذاكرة المهزومة والمجروحة بالتأمل الموضوعي وبالوعي النقدي الذي نحتاجه لإعادة تقييم تجربتنا العراقية منذ الثمانينيات وصولا إلى وقتنا الراهن.