رأي
من بين بضع عشرات من المؤلفات التي صدرت عن عراق ما بعد 2003، يندر ان تجد من يفسر لك كيف تمت الأسلمة السياسية لمجتمع لم يعرف غير الحياة المدنية منذ تأسيس الدولة العراقية حتى سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأميركي.
في مؤلفه المعنون "الأسلمة السياسية في العراق"، يتصدى د. فارس كمال نظمي للرد على تساؤل محير عن هذا الذي نحن فيه: أهو دين أم تدين أم تديين؟ أهو اسلام أم تأسلم أم أسلمة؟ أم هو صورة إدراكية سيكولوجية حمالة أوجه حد التشظي، ونحو كل وجه منها يتجه جمهور محروم ومتعصب ومتعطش لأي يقين يريحه من أزمته الهوياتية المتفاقمة؟
يرى المؤلف أن الأسلمة لا تقتصر على السياسة إنما تمتد الى العلوم والفنون والآداب والقوانين والأزياء والعادات والحريات الشخصية والعامة لتصنع جميعا مشهدا لم يألفه العراقيون من قبل.
ولأن الكتاب يدرس الحالة العراقية من منظور نفسي، فإنه يقدم توصيفا شديد الدقة لسيكولوجيا السياسي الطائفي (أيا كانت طائفته) الذي يقود اليوم الأسلمة السياسية للعراق بعد تعرضه الى تناشز معرفي حاد بين منظومته القيمية التقليدية الرافضة للقيم الغربية الديمقراطية المؤمنة بتداول السلطة، وبين سلوكه المتعطش والمضطر لمجاراة الشعارات الديمقراطية التي جاء بها الاحتلال الأميركي. ولم يكن لهذا التناشز ان يحل إلا ببروز السياسي الطائفي بمواصفاته التالية:
/ شخصيته متزمتة متصلبة تفتقر الى قيم الجمال والتسامح.
/ يعاني بوضوح من أمراض الشخصية التسلطية، أي الافتتان بالقوة والسلطة، والخضوع لسلطة الاحتلال من جهة، والقسوة المفرطة تجاه من أضعف شأنا أو أقل أحقية بالحكم.
/ تتوافر لديه بعض سمات الشخصية السيكوبائية: البرود الانفعالي أمام مشاهد القتل اليومي، والغياب شبه التام لمشاعر الذنب أو التوبيخ أو النقد لأخطائه، وافتقاد القدرة على التعلم من الأخطاء، والاندفاع الغرائزي غير المحدود لإشباع حاجاته الفيزيولوجية والنرجسية عبر الامتيازات المعيشية الضخمة وانخراطه في الفساد المالي.
/ مفتون حد الإدمان بالظهور النرجسي في وسائل الإعلام بخطاب لفظي جامد ووسواسي في دلالاته ومصطلحاته.
/ عاجز عن التفكير الجدلي، وتهيمن الثنائيات الحدية السطحية على إدراكه للوقائع، مثل: "الخير-الشر" و"الصديق-العدو".
/ تخلو شخصيته من "هوية سياسية" محددة بالمعنى الفكري، مستبدلا هذا النقص بهوية طائفية خاوية يستعين بها بعد عجزه عن ان يكون امتدادا حقيقيا لجماعة اجتماعية او ثقافية معينة.
/ نشأت لديه، بفعل مركبات النقص تلك، عقدتا التفوق والشك نحو الآخرين، والتي اندفع للتعبير عنها عبر شغفه العصابي بالصراع على السلطة، وعبر استعانته بميليشيات مسلحة توفر له "الأمان المفقود"، محيطا نفسه بدروع بشرية وكونكريتية تحميه من غدر "الآخر"، أو بتصفيته الاستباقية لهذا الآخر بوصفه "العدو" و"الشريك" معا في العملية السياسية.
من فضائل هذا الكتاب انه يحمل شحنة من الأمل بمستقبل هذا المجتمع تستند الى ان منطق الحياة والتاريخ لن يسمحا بدوام الحال لأن العراقيين مدنيون في الأصل ولن يتخلوا عن هويتهم تلك.
ليس من عادتي ان أروج لمؤلف ما لكنني أحرض على قراءة هذا الكتاب.