رأي
قلّ أن تُسمى الروايات بأسماء شخصية من شخصياتها. هذا كان في السير العربية القديمة كسيرة عنترة والزيني بركات وسيف بن ذي يزن. وفيها كان البطل صلبا وقويا وقادرا على تجاوز الصعوبات والمحن، وكان يحقق النصر الصعب لقومه، فيظلون يتغنون به لسنوات طويلة، ويستعيدون ذكراه ليواجهوا بها بؤس الواقع وظلم الظالمين وتسلط المتسلطين. أما الرواية الحديثة فإنها تناقش المجتمع ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، فالرواية كما يقال ملحمة الطبقة الوسطى. فما الذي يجعلها تعود إلى الشخصية، وإلى الشخصية المهزومة والمقهورة التي لا تصلح لتكون مثالا لأحد؟!
خضر قد بطل رواية نصيف فلك "خضر قد والعصر الزيتوني" هو رجل يتحرك في عصر مجرد من كل ما يخص الإنسان الفرد، لأنه عصر يحكمه فكر واحد هو الفكر القومي الذي يحول الأشخاص إلى أرقام لتحقيق غايات فكرية وليست إنسانية. وعصر يحكمه قائد أوحد قادم من التاريخ، ومن السير، ومن الخيال اسمه في الرواية بهضام.
وهذا العصر الذي يتوجه للقضاء على كل ما هو إنساني، هو ذاته الذي يستفز الرواية للتمسك بكل ما هو إنساني، وبطريقة غير معلنة. وأول أساليب التمسك بتلك الإنسانية هي دفع السيري التاريخي بالسيري اليومي، ودفع المثالي من الأفكار والشخصيات بالواقعي المغمور بأقبح التفاصيل التي لا تترك للإنسان أي مجال للحب أو للحياة أو للسعادة، ففي مقابل فكر قومي يدعي أنه يريد أن يخلص الإنسان من الظلم والعبودية يوجد واقع تلاحق فيه خضر وأمثاله من الشباب المعتقلات وأبشع أنواع التعذيب والحرب القاسية وصور الموت والحزن. وفي مقابل الفارس والفاتح الذي شكلت صورته كتب التاريخ والسير وجعلته محتمل الوجود في أي عصر ومحبوبا لمن يتابع الصورة من بعيد من العرب، هناك القائد المريض بأوهام العظمة الذي يحوّل البلاد إلى محرقة.
يأتي بعد هذا النقض للتاريخ والتاريخي، تركيز في الفردي، وفي الذاتي ذلك الذي يتولى مهمة التفكير والتحليل والسرد والفعل أيا كان ذلك الفعل من البساطة (بساطة تبلغ حد العظمة)، فحمودي الذي يتخصص بالتلغيم ويصير لغاما يقوم بنزع الصاعق من اللغم بعد زرعه ليبقى مجرد حديدة وهو لا يطلق رصاصة واحدة باتجاه العدو، ذلك في حرب الثمانينيات التي تدور أحداث الرواية في فترتها. وكميل في كل مرة يعودون به من غرفة التعذيب وهم يسحلونه في الممرات ينتقي قطف سيجارة لا يزال فيها نصف روح من الدخان يجرها بقدمه والدماء تسيل منه حتى يوصلها إلى المعتقلين الآخرين رغم أنه لا يدخن. وسلامة حبيبة خضر تحرق ساقيها لتحول بذلك دون تزويجها بابن عمها وحرمانها من حبيبها.
وخضر نفسه يحاول أن ينجو من حرب الثمانينيات ومن العصر الزيتوني. وبالرغم من أن محاولاته حتى بعد هربه إلى إيران لبلوغ أية دولة بعيدة عن العراق لا تنجح، وبالرغم من أنه يوسم بالنحس في مفارقة مرة لما يحمله اسمه من معنى، فإنه يظل بمحاولاته تلك قادرا على نوع من أبلغ أنواع الفعل ألا وهو السرد. وأي سرد؟! إنه الذي يفكك السيرة التقليدية ويسخر منها ومما أنتجته من نماذج ومن أوهام وما تنتجه من شخصيات مجنونة تحترف التخريب والقتل كما هو بهضام الذي فرغ من حرب كما تقول الرواية ليدخل في حرب أخرى. فمن أين تبدأ السيرة التقليدية القديمة؟ تبدأ من النبوءة وهو ما حصل لخضر، فالقابلة تتنبأ له بعدما ترى الشامات الثلاث على زنده أنه سيقتل ملكا ويغير الدنيا. وإلى أين تسير؟ من تمرد البطل ومن ثورته ومن تغربه، وخضر يرفض العصر الزيتوني ويغترب، ثم إلى عودته لينتقم ويحقق النبوءة. وخضر يقرر بعد حرب الخليج الثانية العودة إلى العراق برغم المخاطر التي تنتظره، وفي رأسه تحقيق النبوءة وقتل بهضام. ولذا لا يتردد في المشاركة في انتفاضة ما بعد حرب الخليج الثانية لينتهي مدفونا في إحدى المقابر الجماعية.
لن تتحقق نبوءة القابلة في ظاهرها لكن في مغزاها البعيد قد تتحقق، فلابد من أن ينتصر سردنا على سرد التاريخ عاجلا أم آجلا. وما علينا إلا أن نواصل سرد آلامنا وقصصنا وحكاياتنا ومقاومتنا للتاريخ ولما ينتج عنه من شخصيات أقرب إلى المجانين، ومن أفكار أقرب إلى الأوهام التي لن تؤدي بنا إلا إلى الخراب والقتل. ذلك هو الرهان الذي يتبناه خضر في رفضه الانصياع للتاريخ وللأوهام وللعقل كما يراه الزيتونيون وأمثالهم على اختلاف التسمية والزي الذي يرتدونه ولونه. وحين يصرون على أنه سيخسر رهانه يظل متمسكا بكلمة (قد) بوصفها الاحتمال الذي يمكننا من أن نخوض حربنا ضد القبح. حربنا التي لا سلاح ولا وسيلة لها غير السرد، وهو وسيلة ناجعة على المدى البعيد في الوصول إلى عالم إنساني خال من الحرب والموت.