رأي

في إعلاء الشعر أو ابتذاله

في إعلاء الشعر أو ابتذاله

سلوى زكو

كيف يكون الشاعر ضمير أمة أو لا يكون؟ يظل الشعر شعرا، سواء أكتب بالفصحى أم العامية، فاللغة أيا كان نوعها تبقى أداة توصيل وتواصل، لا تعلي من شأن مستخدمها عندما تكون فصحى، ولا تنتقص من شاعريته عندما تكون عامية.   يوم ودعت مصر شاعرها الكبير الابنودي بمثل تلك المهابة، كان شاعر العامية هذا قد اصبح ضميرا للأمة عبر رحلة شاقة وطويلة أصدر خلالها اثنين وعشرين مجموعة شعرية.   ينتمي الأبنودي الى جيل من شعراء العامية برز في ستينات القرن الماضي، فيه صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وسيد خميس وسيد حجاب. كان هؤلاء ومعهم الابنودي قد انضموا الى الحزب الشيوعي في مطلع شبابهم. هناك تعلموا أن الثقافة تصقل موهبة الشاعر، والابتعاد عن طين الأرض يفسدها، والانتماء الى هموم المتعبين يصنع من الشاعر ضميرا للأمة.. دخلوا السجون لأنهم وقفوا بوجه الحاكم وخرجوا منها أكثر صلابة وانتماء للأرض.   كان جيلا يساند بعضه بعضا، فالصحفيون فتحوا لشعراء العامية هؤلاء صفحات جرائدهم ومجلاتهم التي لا تكتب الا بالفصحى، وتلاقف الملحنون والمغنون أشعارهم لتحويلها الى اغنيات تذاع كل يوم على الأسماع، فجرت على ألسنة الناس رباعيات صلاح جاهين وقصائد احمد فؤاد نجم النارية وترنيمات الأبنودي التي تتغنى بالإنسان والأرض.   وداع مصر الرسمية والثقافية والشعبية لشاعر أصبح ضميرا لأمته، أثار تساؤلا مرا في النفس: لماذا لم يظهر لدينا أبنودي عراقي او صلاح جاهين نحن الذين نوصف بأن أرضنا هي أرض الشعر؟ من بين مئات الآلاف من شعراء العامية الذين ظهروا ثم انطفأ ألقهم طيلة العقود الماضية، لم يكن هناك شبيه للأبنودي او صلاح جاهين. كان هناك مظفر النواب الذي أبعدته المنافي، وآخرون صمتوا في زمن الدكتاتورية حفاظا على نقاء منجزهم الشعري. وكانت هناك أصوات شعرية اختنقت بمحليتها في ظل ظرف يقتل صاحب الكلمة الصادقة.   أتساءل ترى كيف وصلنا الى ما نحن فيه من إعلاء لشعر الفصحى واحتقار لشعر العامية الذي نسميه الشعر الشعبي؟ من الذي ابتذل شعر العامية غير جوقة مداحي الحاكم والسلطان والزعيم السياسي والمحافظ وإمام الجامع وكل سلطة دنيوية او روحية يمكن التكسب من رضاها؟ لقد اعتدى هؤلاء المداحون على تراث شديد الغنى من شعر العامية، من الأبوذية والزهيري والدارمي، وهو شعر نبع من طين الأرض وانتمى الى العراقيين وظل زمنا طويلا يحكي آلام أجيال عانت ويلات الفقر وفيضانات الأنهار الغاضبة وحروب القبائل والموت المجاني، ورسمت بأبهى صورة جمال العلاقة الانسانية بين رجل وامرأة.   ليس واضحا أننا سنغادر قريبا منطقة التكسب بالشعر ما دام هناك من يشتري ليغوي الشاعر بأمواله ونفوذه، وما دام هناك فساد في الضمائر وإفساد لها، تماما كما هو الفساد في أجهزة الدولة. ستخرج من هذه الأرض المعطاء أعداد أخرى من شعراء العامية، وسيكونون بحاجة الى أن نحميهم ونحمي منجزهم الشعري من غوايات حيتان المال والنفوذ. سنكون بخير عندما يكون لدينا شعراء، بالفصحى أو العامية، كما الأبنودي، يمثلون ضمير الأمة.  

مقالات أخرى للكاتب