رأي

عبارة في كتاب نقدي

عبارة في كتاب نقدي

عقيل عبد الحسين

يحدثنا النقد عن الوقت الطويل جدا الذي تستهلكه التقاليد الأدبية لكي تتغير. والتقاليد الأدبية هي الشروط اللغوية والأسلوبية والنوعية التي يُنتج في ضوئها النص. فعندما تُكتب الملحمة لا بد من أن يُراعى فيها عنصر الشعر، والموضوع الكبير الذي يدور حوله الصراع بين الأبطال شبه الآلهة، والآلهة. ولا بد أن ينتهي الصراع بقهر البطل، أو بإظهار لا جدوى سعيه، وتثبيت المعنى الذي يمتاز بأنه إنساني يهم البشر كلهم.   وحتى لا نذهب إلى الملاحم اليونانية البعيدة عنا، فلنشر إلى ملحمة كلكامش، وبطلها يصارع القدر، ويريد الخلود، فيسعى إلى عشبة الخلود، ويحصل عليها، ولكن حية تخطفها منه، فلا يُكتب له ما سعى من أجله. والمعنى هو بيان أن على الإنسان ألا يفكر في الخلود الجسدي، ويعوضه بالخلود المعنوي.   أما السيرة فيُراعى فيها النثر وأبطالها اعتياديون يصارعون قوى شريرة آدمية، وينتهون بعد سلسلة طويلة من المكابدة بالانتصار على تلك القوى، ويثبتون من خلال انتصارهم قيم الجماعة التي تظهر في السيرة كالنجدة والشجاعة والكرم والسماح.   ويُراعى في المسرح الشعر، هذا في الأصل. ويقسم بحسب موضوعه إلى تراجيديا إذا كان محاكاة لأفعال عظيمة يقوم بها أبطال استثنائيون، والى كوميديا إذا كان محاكاة لأفعال وضيعة تقوم بها شخصيات من العامة غير معروفة وغير ذات قيمة.   والتراجيديا تثير أسى المشاهد وتعاطفه، وتوّلد عنده موقفا من الوجود ومن الحياة، فهو يتأسى أو يتعلم مما يقع للنبلاء من مآسٍ لا يد لهم فيها، وميزتهم أنهم يواجهونها بعزيمة، كما حدث لأوديب الملك الذي حكم عليه القدر بالشقاء. ويبدأ شقاؤه بأن يُبعد عن أبيه بعد نبوءة أطلقها عرّاف وقت مولده جاء فيها أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، فيدعو ذلك الملك الأب إلى أن يأمر أحد رجاله بأن يأخذه ويقتله، غير أن الرجل لا يقتله ويتركه عند راعٍ إلى أن يكبر، فيقتل أباه دون أن يعرفه، ويتمكن من مملكته بعد أن يفك عنها حصار وحش ضارٍ، وحينها يتزوج الملكة (أمه)، لتحل اللعنة بطيبة، ويعرف أوديب أنه ارتكب المحظور، فيسمل عينيه ويختار التيه.   وخلافا للتراجيديا تُوظف الكوميديا في الامتاع والتسلية والتحذير من السلوكيات أو الشيم المنبوذة كالبخل والغضب والرعونة والجبن. وهي تقدم صورة لواقع الناس الاعتياديين الذين لا يخلون من هذه الصفات، وتميّزهم عن النبلاء في مجتمع تراتبي تحكم فيه القلة من النبلاء الكثرة من العامة وتخضعهم معنويا لحكمها من خلال أساليب متعددة من بينها الأدب. وكل ذلك عبر قالب أقرب إلى الثبات يعتمد على قوانين كتابة المسرحية الثابتة أو الوحدات الثلاث كما تسمى وهي وحدة الحدث والمكان والزمان، وعلى الشعر.   وأكثر شيء ظل ثابتا في المسرح هو اعتماده على الشعر، وهو تقليد عصي على التجاوز، بدأ مع بدايته، واستمر إلى القرن السادس عشر الميلادي، إذ بدأت محاولات الخروج عليه، وزال نهائيا في القرن التاسع عشر.   وذلك ينبه إلى أن مسألة التقاليد الأدبية ليست مسألة خاصة بالأدب العربي الذي كثيرا ما قيل، لإثبات تقليديته واستعصائه على التغيير، إن تقاليد عمود الشعر فيه سادت لأكثر من أربعة عشر قرنا. وليست مسألة خاصة بالعرب وبالثقافة العربية بوصفها ثقافة تعيد انتاج نفسها ونماذجها كما قد يقال، وبأنها في النتيجة لا تتغير أو تهجر تراثها وأساليب تفكيرها. وأظن أننا في الواقع نعيش الحياة الحديثة بكل أشكالها في اللباس والتنقل والتخاطب والتواصل والتلقي والتعبير الفني شعرا ورواية وسينما ومسرحا، ونحاول - رغم كل شيء - إدخال التطوير هنا أو هناك.   وهو ما ينبهنا إلى أن علينا ألا نيأس من الإصلاح والتغيير في أي مجال من مجالات حياتنا، الأدبية وغير الأدبية، فالتغيير بطبيعته يحتاج إلى وقت ممتد من التجربة والوعي والتعبير ضمن القوالب السائدة والمعهودة في البداية، ثم إلى محاولات تجاوز جزئي، وأخيرا تحدث الثورة الحقيقية التي نتقبلها من دون صعوبة، لأنها ثورة في التقاليد، وفي طريقة الكتابة، والوعي والتعامل مع العالم والتعبير عنه وعيشه. وليست صيحات هنا أو هناك، أو دعوات، أو استيرادا لنماذج جاهزة، أو تقليدا لها.  

مقالات أخرى للكاتب