رأي

صعود العوام وتراجع الخواص

صعود العوام وتراجع الخواص

جاسم بديوي

تتكون الارستقراطية الشيعية من الأسر الساكنة حول المراقد المقدسة سليلة المرجعيات الدينية التي معظمها تعود إلى بيوت وافدة من شعوب تتمذهب بالمذهب الشيعي كإيران وأفغانستان وباكستان وأذربيجان ولبنان ودول أخرى. هذه الأسر تكونت بعد اجتذاب طلبة العلم إليها سواء قبل تأسيس الحوزات العلمية أو بعد ذلك، كما أن قسما منها، كما في بقية الأمصار والمدن الرئيسة، امتهنت حرفا كثيرة منها التجارة التي كانت رائجة آنذاك، فضلا عن الصناعات البسيطة وإدارة الخانات وما يتعلق بمواسم الزيارة والحياة هناك. ومعظم هذه الأسر، بحكم وجاهتها وتعليمها المتقدم، قياسا ببقية سكنة مناطق الريف والقصبات والضواحي، أخذت حصتها من الزعامة الدينية والاجتماعية، وربما السياسية أيضا، في مفاصل تاريخ العراق، كما نالت حصتها من القمع في ظل حكم الطغاة سواء إبان سيطرة البعثيين على السلطة منذ سنة 1968 أو قبلها بكثير.   وكانت في هامش تلك الأحداث ثمة أغلبية شعبية ترزح تلك وطأة التاريخ وأحداثه العنيفة أولئك الذين يعيشون في أطراف المدن المقدسة وفي جنوب شرقي العراق كفلاحين وكسبة تحت إقطاعيات عشائرية واجتماعية متخلفة، وكانوا، ولعلهم ما زالوا، يدورون في حلقة فارغة من البؤس والفقر والفاقة رغم أنهم الكتلة البشرية الأكبر في بلد مثل العراق. كانت هذه القطاعات الواسعة من المجتمع العراقي، ولعلها ما زالت، تعاني من الكثير من المشكلات الحقيقية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، رغم أنها تمثل طاقة البلد ومكمن قوته.   ولا أحد يعرف لِمَ لمْ تلتفت الارستقراطية الدينية والإقطاعيات الاجتماعية والعشائرية  آنذاك إلى رعاية هذه القطاعات؟ رغم أنها تمثل الجمهور الأوسع لهم والقوة العاملة إذا ما تحدثنا بمفاهيم الشيوعيين القديمة.   كانت الارستقراطية الدينية تطلق عليهم لقب (العوام)، وكانت الإقطاعية العشائرية تسحقهم تحت مسميات (الوداية وذبابة الجرش الخ)، ولا أحد يعرف لِمَ لمْ تتمكن هذه القطاعات الشعبية من تنظيم نفسها سياسيا واجتماعيا بمعزل عن مؤسستي الارستقراطية الدينية والعشائرية، رغم النظرة الدونية التي تتبناها، ضمنا، تلك المؤسستان؟   لم تتغير تلك النظرة (نظرة المتبوع للتابع) رغم إنقاذ المنبوذين للارستقراطيين في أكثر من مناسبة ومفصل لعل آخرها صورة الملتحقين بالحشد الشعبي الذي يضم أغلبية تقودها شخصيات من (العوام) تمتاز بالبساطة والشجاعة والتجلد في ساحات الوغى، في حين لم تتخلَّ الارستقراطية الشيعية عن امتيازاتها من التنعم بالقيادة، اللهم إلا من الناحية الشكلية تاركة الميدان للرجال (التابعين) الذين نرى أنهم سيغيرون الخريطة السياسية في قابل الأيام، بعد أن ظهرت القيادات من تلقاء نفسها بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل وبعض المناطق الأخرى في العراق، الأمر الذي ينبئ بظهور تغير جيوسياسي في الأفق الشيعي قد يحكمه صراع الارستقراطيات والعامة.  

مقالات أخرى للكاتب