رأي
كتاب (غضن مطعم في شجرة أجنبية) كتاب سيرة ذاتية كتبه الدكتور صلاح نيازي ليصف فيه وقائع تجربته الأولى في عهد الشباب، وفي منفاه الاختياري، وهو لندن، الذي لجأ إليه هربا من قسوة البعث إبان صعوده الأول في العام 1963. وهي قسوة يصفها من خلال فظاعة أساليب التعذيب والتكنيل التي مورست بحق ضد معارضيهم حتى أنهم كانوا يجبرونهم على العيش مع فضلاتهم، ويصبون الماء الحار في آذانهم، ويغتصبون نساءهم ويغتصبونهم.
يقول نيازي في سبب تركه العراق متجها إلى المجهول بلا امكانيات مادية ومن دون معرفة باللغة الإنكليزية إنه لم يذهب إلى العيش ولكن إلى الموت الذي لا يفرضه أحد عليه وانه أراد أن يفوّت على جلادي العراق فرصة التشفي به والاستمتاع بتعذيبه وقتله وإنه بذلك يقهرهم ويغلبهم.
أما مضمون الكتاب فهو نقد الثقافة التي انتجت الوضع المتردي في العراق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وهي ثقافة عدوانية واقصائية مصادرها الشعر العربي القديم والتقليدي الذي يربي الإنسان على التعالي والعنف والغرور. وكلها عيوب تمثلت في شخصية نيازي وكانت واحدة من أهم الصعوبات التي بذل الكثير من الجهد والوقت في وعيها وتأملها ونقدها والتخلص منها ليكون إنسانا متحضرا وقادرا على حب الآخرين وحب الحياة والعمل من أجلهما.
وهو يذكر حوادث كثيرة في ثنايا الكتاب تشير إلى عيوبه الثقافية فهو يبالغ في الحديث ولا يتوخى الدقة ويميل إلى الجزم والقطع في عرض آرائه ويتحدث عن نفسه كثيرا وعن انجازاته وعما يريد أن يفعله وكأنه فتوحات كبرى، ليصطدم بأناس لا يتكلمون كثيرا عن أنفسهم ولا يزعمون فيهم قدرات خارقة مع، أن فيهم من هو فعلا متميز ومبتكر، ولا يستخدمون الجزم في التعبير عن آرائهم وإنما الاحتمال، ويتركون في كتاباتهم دائما خطوطا للرجعة فلا يتبنون المواقف الصامة ولا اليقينيات ولا يعتبرون ما يقولون حقائق لا مجال لمناقشتها.
يكتشف صلاح نيازي في كل مرة أن المشكلة أبعد من تغيير سياسي أو اقتصادي وانها مشكلة تحتاج إلى أن نعيد معها النظر في ثقافتنا، فلن نتقدم أو نحقق أي تطور يُذكر، ما لم نفكر في تغييرها عبر نقدها والكشف عن عيوبها. وهو ما على التعليم وعلى الرواية أو السرد والسيرة تحديدا القيام به للمساهمة في صنع حياة إنسانية طال انتظارها لأوطاننا. وهو ما يبدو أن صلاح نيازي في سيرته قد نذر نفسه له فقدم للقارئ كتابا يجمع بين الأدبية والتشويق والامتاع والتثقيف الأمور التي قل أن تجتمع في كتاب واحد ولكاتب آخر.